وليد رشيد القيسي: تجربتي في الصين… نموذج من الخيال والإبداع في ظلّ التنوع الثقافي.
حوار : دنيا صاحب - العراق

وليد رشيد القيسي: تجربتي في الصين… نموذج من الخيال والإبداع في ظلّ التنوع الثقافي.
حوار : دنيا صاحب – العراق
يخوض حالياً الفنان التشكيلي وليد رشيد القيسي تجربة فنية وإنسانية استثنائية في الصين، في بلد زاخرٍ بالخيال والابداع وشكلت له رؤية، لمشهد في فضاء تفاعلي وعاطفي اثناء عملية الخلق، واكتشاف مادة خلاقة وشفافة (البورسلين) وفيها من الخلق الرائع . والتي تدخل في تفاصيل حياتنا اليومية. إن إقامة استوديو الفنان وليد في الصين ليست مجرد رحلة عمل أو انتقالًا جغرافيًا، بل حياة أخرى في عالمٍ موازٍ، يمتزج فيه الخيال بفلسفة الابتكار والإبداع الذي يتجاوز حدود التقليد، في سعيه لاكتشاف حقيقة المنجزات الفنية والمتناغمة مع قانون تجليات العقل البشري المرتبطة بطاقة المادة .
أعاد الفنان وليد رشيد القيسي بناء علاقته بالنحت الخزفي بوصفه عملا فنياً إبداعيًا. بدأت أسئلته القديمة تتجدد لتولد رؤى جديدة تعيد تعريف الجمال ومعنى الفن من خلال مفاهيم وغرائبيات معاصرة، في رحلة استمرت شهرين في بلاد الحضارة الصين.
في هذا الحوار، يروي القيسي كيف تفاعل مع المكان المدهش، واضافة له ولخبرته الطويلة في التعامل مع مادة الطين ، واللون والشكل، ليصبح عنده رمزًا لحالة فلسفية ووجودية تتداخل فيها العناصر الفنية.
• باعتبارك فنان مقيم في (مدينة جينغدتشن) Jingdezhe العريق بالبورسلين. بصفة فنان استوديو كيف تنظر إلى التجربة المثمرة ، والعمل مع مجموعة من الفنانين المحلين والاجانب .
تمثّل هذه التجربة انفتاحاً واسعاً على الثقافة العالمية المشبعة بالرموز الشرقية الصينية.
العمل المشترك مع فنانين من الصين واوربا وامريكا وجنوب شرق اسيا، بيئة فنية خصبة تتسم بروح الجماعة والتعاون فيما بيننا، وهذه ليست التجربة الاولى لي سابقا كنت اقيم بصفة فنان استوديو كل من الدنمارك واليابان وايطاليا والدوحة ، كلها منحني منظوراً جديداً تجاه هذا الفن المعطر بعبير يفوحُ منه تاريخ الارض ويسجل بصماته عبر حروف نسخت على صفحاتِ مرثيةٍ لعناوينَ من ترات. فلم أعد أراها مجرد وسيلة لصقل المهارة أو التعبير عن رؤية فنية، بل باتت بالنسبة لي كياناً يحمل ذاكرة وتاريخاً حضارياً.
في هذا السياق، يدور بيني وبين المادة حواراً تأملي داخلي، ومحايثةٌ طويل أوسع مع من حولي، مما اجعل التجربة عميقة ومفعمة، كأنها داخل روضة خضراء وسحابة بيضاء ترقدُ بهدوء. تُداعب نسمات الهواء بلوعة لم تُشبع.
• هل تعتبر هذه التجربة امتداداً طبيعياً لمسارك الفني، أم تراها لحظة تحوّل نوعي تنقلك إلى مرحلة جديدة من التجريب الجمالي والمفاهيمي؟
في فضاء، نشوة شكلت طينا،تُراقصهُ ملامح وحسرة ذاكرة غارقة في لججِ الخلق. متوغلًا في أعماق امتداد لمسيرتي الفنية تضاف لدرب المعرفة ، وهذه الاضافة هي انغماس في بيئة مغايرة كي يخرج منه شكلاً وجداراً يُغطي تاريخَ تراب الارض، ويفتح لي بابًا اوسعًا للبحث والتجريب. ما أصنعه اليوم ليس تكراراً لما مضى، بل هو تجربة ضائع الجواب فشكلَ خرابًا، أتبنّى فيها مفهومي “الغرائبي” و”المفاهيمي” اللذين يتبلورا بوضوح في نتاج أعمالي المتنوعة.
• في أعمالك الخزفية، تبرز الخطوط والشقوق والتصدعات كعنصر بصري مهيمن. ما دلالة هذا التعبير البصري في التصدعات؟ وما فلسفة “اللامكتمل” في رؤيتك الفنية؟
“التصدعات” هي ظلال ضالتها شاخت بفعل الزمن حاملتاً رموز بصرية وتعبيرية لتكشف عن المكان والزمان، وتُحيل إلى التآكل الذي يطال جميع الاشياء . أما “اللامكتمل”، فهو دعوة للتأمل في كيفية اكتمال النقص، بوصفه مدخلاً للوصول إلى معرفة الجزء الغائب الذي يمنح الكل معناه. في التصدع، يكمن أثرٌ خفيٌّ يروي حكاية دفينة في لغة يتيمة، هجرتْها أشجارُ النخيل، فاستعادتْ خرابًا.
•إن أعمالك تقع في فضاء “اللاتعيّن” و”تفكيك البِنيوية”؛ فأين تقع القصدية الفكرية في الابتكار؟ وكيف تستحضر هذه العملية علاقة المادة بالحس الوجداني؟
تتلاشى الأشياء في بعضها لتعيد صياغة لسيرة حروفها شاكست غرائز مبهمة ، وكأنها أحبار مدمنة تتيهُ بين الوجود والكينونة. لهذا القصدية لا تكمن في الشكل الظاهر، بل هو نور بهيج يبدد غبش الظلام في العمق البنيوي للمادة، في ما لا تستحضُر بالعين المجردة. حين أتعامل مع المادة، لا أفرض عليها شكلاً نهائيًا مغلقًا، بل أتركه مفتوحًا للرؤية البصرية، حتى تتفاعل مع التكوين ، وأشكّلها بيد الصديق الحميم، لا بيد الحاكم المتصنّع بدرس اكاديمي .الحس الوجداني يتسلل من خلال هذه العلاقة الحميمة مع الطين، ومع تلك اللحظة التي أتأمل فيها سرد العمل الفني، حيث يصبح كل عمل هو شكلا اخر لتجربة شعورية ذات رؤية بصرية.
•تبدو في لوحاتك ومجسماتك حساسية عالية في اختيار الألوان وتنسيقها. ما فلسفتك في استخدام اللون؟
اللون ليس زينة في عملي، بل سقوط يكسوه الاحتجاج عبر عبير أسئلةٍ نامت بين أحضان فراغ ابيض. هو كيان حي يحمل بين طبقاته وسطوحه معانٍ .
أحيانًا أختار الألوان واحيانا اتركها كي تطرقتُ أسئلة لخريطةالخراب، لتقول ما لا يُقال بالوصف، وتفتح صفحات للتأويل ، أو لتعكس رؤية بصرية وذائقة منغمسة بين الداخل والخارج أو العكس. وفي هذا السياق، يُعدّ اللون إيحاءً رمزيًا بصريًا يعكس خرابا يحمل معانٍ خاصة بعملي . أحرره من كونه جسدًا ماديًا، وأمنحه صفة رمزية وبصري، محمّلًا بكثافة الشعور ، ووزنًا خاصًا به. اللون أسئلة مُربِكة فتتْ وجودًا وخففت همساً غائب،لتعيد صياغة التكوين.
•ما دلالة الألوان في أعمالك؟ وكيف أثّرت الثقافة الصينية في توظيفك لها؟
تسلّلت رؤية دفينة ببطء من ماض مُخبأ، بين مادة البورسلين وجلد الأرض، التقط أجوبة ظلها زهرة أحتضنت نجوم الليل. قليلًا ما أستحضر رمزية الألوان، ولا سيما في تواصلي مع الثقافات الاخرى، حيث يتجاوز اللون المطبوخ بعلامةٍ محسوسة على جسد الشكل . يتلألأُ منه اللون وعلى سطحه وحشةً مكحلة بخطوط نقشت جفن الأرض لتعطي معانٍ . ارممُ ما تبقى من جرح خرابه قابِع تحت الرمال، واتذوّقُ نهاراتٍ بلون التراب المالح.
•في الختام، ما الرؤى أو المقترحات الجديدة التي استخلصتها من تجربتك الفنية في الصين، والتي تودّ أن تشاركنا بها؟
الصين بلد لا يعرف المستحيل ومفتح لجميع الثقافات يأخذ ويعطي . تجربتي كانت بمثابة رحلة حج لفضاءات لم تبتكر بعد من الفكر والإبداع. بوصفها كائنًا حيًا يحمل بُعدًا تاريخيًا وثقافيًا متجذرًا في الذاكرة .
أدهشتني العلاقة العميقة التي يقيمها الفنان الصيني بين التأمل والطبيعة، وبين جماليات الحياة اليومية.
أدركت أن الفن لا يُنتَج فقط داخل الأستوديو، بل يتشكّل أيضًا في التفاصيل التي تقع خارجه: في الطبيعة، والطقوس الروحية والدينية ، وفي نظرتهم العميقة للحياة. ومن بين الرؤى التي أحملها معي: تعزيز البُعد التأملي في العمل الفني، وتوسيع مفهوم “اللامكتمل” بوصفه مجالًا مفتوحًا للخيال والتأويل.
(بلمس الطين تتضح الأشياءِ وتنضج العبارة)
