قراءة بنيوية تفكيكية في قصيدة “حوار” للشاعر حميد يحىيى السراب/ بقلم أحمد أمير. العراق

قراءة بنيوية تفكيكية في قصيدة “حوار” للشاعر حميد يحىيى السرا بقلم أحمد أمير. العراق
مدخل تأويلي: الشاعر الذي يكتب من داخل الهشاشة
إنّ شعر الشاعر حميد لا يُكتب من نبرة العاشق المتوهّج، بل من قاع الحيرة، من غرفة ضيّقة يتردد فيها صوت الداخل، المرتبك، المشكك، المتشظي.
في قصيدته “حوار”، لا نقرأ اعترافًا عاطفيًا على الطريقة النزارية، بل محاولة لتفكيك إمكانيّة الحب أصلًا.
اللغة في نص حميد لا تحتفل بنفسها، بل تتلعثم، تتنافر، تُعلن عجزها. هو شاعر ما بعد الشعر، الذي يشكّك في القصيدة كما يشكك في العاطفة، ويهدم المقولات العاطفية الجاهزة بنفس اليد التي كتبها بها.
هكذا، نجد أنفسنا أمام نصّ لا يقدّم الحقيقة، بل يفككها إلى شظايا، نصّ لا يبحث عن المعنى، بل عن هشاشته، عن ظلاله المرتعشة في زوايا اللغة.
التفكيك البنيوي: ضد المركز، ضد الحب، ضد الذات
أولاً: العنوان كمصيدة
“حوار” يوحي بوجود طرفين، لكن سرعان ما نكتشف أن القصيدة مونولوج داخلي. لا وجود لـ”أنتِ” الحوارية سوى كصدى، كافتراض.
هذا يُدخلنا في أولى آليات التفكيك البنيوي: زعزعة البنية المعلَنة. الحوار يصبح وحشة، والنداء صدى، و”الحديث” هو ارتباك.
“كيفَ أحاوركِ
وبي ارتباكٌ قرويّ خجولٌ؟”
الارتباك هنا ليس اضطرابًا شعوريًا فقط، بل مأزق بنيوي في اللغة نفسها.
الشاعر لا يستطيع التعبير، لأن البنية اللغوية التي يحملها (القروية، البدائية) لا تقوى على أداء الوظيفة العاطفية/الحوارية.
—
ثانيًا: المجاز بوصفه خيانة
“بالزورقِ الورقيّ أرقّشُ القصائد
وخزعبلاتِ البهلول!”
الزورق الورقي، بوصفه رمزًا شعريًا، يُشير إلى هشاشة القصيدة ذاتها.
هنا، لا تُستخدم الصورة لتزيين المعنى، بل لتفكيكه. الزورق لا ينقذ، بل يغرق. القصيدة لا تبني، بل ترتجف.
في البنية البنيوية التفكيكية، هذا يُسمّى بـنقض الاستعارة من الداخل — أي حين تُعلن الصورة عجزها الرمزي.
—
ثالثًا: الحب كمفهوم زائف
“كيف أمنحكِ الحبّ الذي تريدين
وأنا مثقلٌ بالديونِ… والهواجس المغشوشة؟”
يُفكك الشاعر مفهوم الحب، لا بوصفه عاطفة، بل كمطلب اجتماعي فوق طاقة الإنسان المنكسر.
“الحب” هنا ليس تعبيرًا صادقًا، بل عبء لغوي ووجودي، تمامًا كما أن الهواجس “معلّبة” — أي مُنتجة سلفًا، غير أصلية.
—
رابعًا: تفكيك السلطة الشعرية (نزار نموذجًا)
“لم يترك لي (نزار قباني) مضافةَ حبٍّ
ومازالت صديقته ترقصُ حافية القدمين”
في هذا المقطع، يتم تفكيك “سلطة المركز الشعري”.
نزار، الذي احتكر قاموس الحب، صار عبئًا على الشاعر الجديد، هذا الذي لا يجد لغته لأن “الآباء الشعريين” استنفدوها.
إنه تمرد تفكيكي كلاسيكي ضد سلطة المؤسس، وضد “المضافات الجاهزة”، وضد الرقص الرومانسي البالي.
—
خامسًا: هدم الهوية
“ليس بمقدوري أن أكون ثعلباً ماكراً
أو نادل مقهى
أو بائع فراراتٍ
كلّ ما في الأمرِ
أنا لا أجيدُ الفذلكة َ ولا السيرَ في اتجاهينِ اثنين”
هنا تتعرى الذات من كل أدوارها المُحتملة، وتفشل في ارتداء أي “هوية مجازية”.
هي لا تتحايل، لا تُجيد اللعبة، لا تسير باتجاهين.
إنها ذات تتفكك أمام لعبة الحياة، تفقد إمكانية التمثيل.
وفي المنهج البنيوي التفكيكي، هذه لحظة مركزية: هدم الذات كتمثيل لغوي.
—
سادسًا: النهاية والانهيار الكامل
“أمتلكُ كثيراً من الألقابِ
بيد أنّي مازلتُ وحدي”
تصل القصيدة إلى ذروتها البنيوية:
الهوية الاجتماعية (الألقاب) لا توازي الهوية الشعورية (الوحدة).
هذا الانفصال يُنتج هوية مُهشّمة، مُفككة، لا قادرة على الحب، ولا على التعريف بنفسها.
كل المعاني تنهار: الحب، اللغة، الذات، السلطة، المجاز.
ما يتبقى هو الفراغ الذي يصنع الشعر الحقيقي.
—
الخلاصة: قصيدة ضد الحب، ضد الشعر، ضد اللغة
قصيدة “حوار” هي تفكيك متواصل للمعنى، وفضح للثنائيات الزائفة التي تسكن الخطاب الشعري العاطفي:
لا “أنا” ثابتة،
لا “أنتِ” حقيقية،
لا “حب” ممكن،
لا “شعر” قادر على الإنقاذ.
ما يتبقى هو هذيان داخلي يُمارس الفضح الذاتي:
قصيدة تهدم ذاتها بقدر ما تُفصح عنها.
—
النص الكامل للقصيدة:
حوار
كيفَ أحاوركِ
وبي ارتباكٌ قرويّ خجولٌ؟
كيف أبادهكِ
ولي ورطةٌ بين تفسير الأحلامِ
وتقشير البندق؟
بالزورقِ الورقيّ أرقّشُ القصائد
والنوايا القديمة وخزعبلاتِ البهلول!
كيف أمنحكِ الحبّ الذي تريدين
وأنا مثقلٌ بالديونِ والعبثِ والسردِ الكاذبِ
والهواجس المعلّبةِ المغشوشة؟
هُبلْتُ إذن وأنا أسري بالظلام والضلال
لا محالةَ تتلقّفني المفازةُ والذئابُ والغربةُ والإغتراب
كيف أحبّكِ إذن وهاهي سيّئاتي وترّهاتي؟
لم يترك لي (نزار قباني) مضافةَ حبٍّ
ومازالت صديقته ترقصُ حافية القدمين
ليس بمقدوري أن أكون ثعلباً ماكراً
أو نادل مقهى
أو بائع فراراتٍ
كلّ ما في الأمرِ
أنا لا أجيدُ الفذلكة َ ولا السيرَ في اتجاهينِ اثنين
أمتلكُ كثيراً من الألقابِ
بيد أنّي مازلتُ وحدي