قراءة تكوينية في النص النثري “غواية” للشاعرة ليندا إبراهيم بقلم الشاعر العراقي علي حميد الحمداني
فوضى شتراوس في "غواية" ليندا إبراهيم)
(فوضى شتراوس في “غواية” ليندا إبراهيم)
قراءة تكوينية في النص النثري “غواية” للشاعرة ليندا إبراهيم بقلم الشاعر العراقي علي حميد الحمداني
—————————————–
لعل أكثر النصوص ثراءً هي تلك النصوص التي تأتي بمستويات متعددة لفهم النص وسحب المكون اللفظي الى معاني عديدة ربما لا يمت بعضها بصلة الى المعنى الظاهر لكلمات وبناءات النص، ومن القصائد والنصوص النثرية ما يسمح تكوينها بتجاوز المعنى الذي يظهر لنا في القراءة الأولى إلى معاني أكثر عمقا وتوحي بفهم عميق لما يقصده منشئ النص، وقد تتطور مهمة القارئ الى بناء معنى آخر للنص يستمده من ثقافته الخاصة وكيفية وضعه للنص ضمن قراءاته السابقة وما تركته لديه من قناعات ترتبط بوشائج تجعل من النص الجديد منتميا الى تلك القراءات.
وقد يتعمد منشئ النص (والشعراء على وجه الخصوص) أن ترتدي قصائدهم ونصوصهم النثرية مسوحًا لا نتمكن في النظرة الأولى اليه من استكناه المستويات كافة التي تكمن تحت النص، لكن القراءة العميقة والمتأنية المتسلحة بالخزين الفكري الكافي ستكشف لنا أعماقًا ومستويات تمنح النص قيمته الحقيقية.
وانا اتجول بين دفتي النص النثري “غواية” للشاعرة (ليندا إبراهيم) وجدت نفسي مستمعًا الى نداء ذي مقاطع اربعة يصدر من آلة كمان تخاطب بها صانعها (أنطونيو ستراديفاري) ذلك الصانع المتخصص في صناعة الآلات الموسيقية الوترية، وكان من أكثر صانعي تلك الأجهزة تمكّنًا في اتقان صنعها ومنحها لمساته الخاصة التي تجعل منها قطعا فنية فاتنة المظهر وعظيمة متقنة الاداء.
(أنطونيو ستراديفاري) الذي حرص على تجسيد مجد الكمان عندما فرض على الكمان أن يكون أستاذًا لـ (ليندا إبراهيم) يعلمّها كيف تتقن “وهي تداعب الاوتار الأربعة” مهمّتها في رواية القصة الكامنة في نص “غواية”، وسرد تفاصيلها، وأن يطبع في قلبها أن تعزف بالحب لا بغيره، فبدون الحب ليس هنالك من عزف على الاطلاق.
لذلك لم يكن امام (ليندا إبراهيم) الا أن تجلس في الصفوف المتقدمة من جوق العازفين وتفتح الصفحة الأولى من نوتات (استورياس) وترتدي جسد آلة الكمان، بل أصبحت هي آلة الكمان بكل مفاتن الموسيقى لتخاطب (إسحق ألبينيز):
(أيُّها المُعَلِّمُ، اقرأْني: ألِفَ باء الحياة
اكتُبْني: حاءَ باءِ الحبِّ
وعلِّمْني أسماءَكَ حتَّى ألِجَ مَدَارَك
جسدانا البدءُ، وفي البدء كان الطِّين
وإلى أنْ أَغيبَ فيه، إلى أنْ يُغَيِّبَني فيك
أُريدكَ فضاءً رَحْباً شاهقاً كدهشتي بك
أوسَعَ من حُلُمي
أرتعُ ما شئتُ في غبطتك العليَّة
يداي حُرَّتان ، وروحي طليقة)
نداء ذو إغراء لا يُقاوَم، نداء آلة الكمان (ليندا) لينتخبها وحدها من بين كل الآلات الأخرى، ليعيد على أوتارها الأربعة بناء الكينونة الموسيقية التي تتجلّى في الاتحاد الذي لا مناص منه بين الرغبة والغواية، تلك الرغبة التي تنتمي الى الأصول الكلاسيكية حيث تراق الحياة في عروق الاشتهاء وتستوي الأجساد في حاجتها للإخضرار بماء الاستجابة والطواعية اللا مشروطة لأوتار (الشاعرة ـ الكمان) ليندا إبراهيم، وندائها المُعلن في ألحان أوتارها الأربعة، لام ونون وحاء وباء (مي، لا، ري، صول) تلك أوتار الكمان الذي صنعه (ستراديفاري) في (أحسن تقويم) وتبادلت الأدوار مع حروف الكينونة وبدأت الموسيقى مع أول حرفين منهما كما بدأت الحياة، ثم يقوم الحرفان الآخران بضمان ديمومة الموسيقى، فالموسيقى هي النبض، وهي الإيقاع الذي يضمن الاستمرار، والحب هو الابتكار المتجدد الذي يخشاه الملل والجمود، ويضخ المزيد من الدماء في ذلك الكائن الذي لا بد من انتاجه ليستمر كمان الحياة في العزف الجميل.
في هذا النص الذي ينتمي الى الموسيقى أكثر من انتمائه الى الشعر يتلمّس القارئ مؤامرة أوبرالية صادحة كأنها من صنع (شتراوس) منتشرة على عموم النص، ولماذا (شتراوس) بالذات؟ لأن بين حنايا النص عاصفة لحنيّة تحتل الشاعرة فيها حجر الأساس كآلة موسيقية واثقة بقدراتها وتطالب قائد أوركسترا الحب بأن ينتبه اليها، ولا يهمل تلك القدرات الثائرة الظاهرة فيها، فهو صانعها والأكثر دراية بمواهبها، فمن الانصاف ان يعمد الى التعامل مع أوتارها الأربعة، وأن يعطيها المحل الأول في التوظيف العزفي ضمن أوركسترا الحب والحياة:
(لا شيء سوى الرَّغبة… الرَّغبة فقط
تجعلُنا نتسلسلُ سلالةَ أحياء
في دورة الخلق العظيمة
الرَّغبةُ وفقط كي أبقى شغَفَكَ
وتبقى مارداً شهياً عصياً حارقاً
مارجاً من توق، لتنطفئَ بي…
وأُضْرِمَكَ من جديد)
ولكي أضع هذا النص في مكانه بين سلسلة النصوص التي ينتمي إليها ليس شكلا ولكن في اندماج الشاعرة مع تلك السلسلة دون وعي منها، ويكون النص ثمرة هذا الاندماج الذي يتطور الى انتماء، ان (ليندا إبراهيم) ليست اول من كتب النص الشعري الذي يتماهى مع مجد الموسيقى،؛ لكنها تنتمي الى هؤلاء الشعراء الذين ارتفعوا ببعض نصوصهم الى درجة التماهي ذاك، بل إن هذا النص يحمل تلك البصمة التي أوحت الى فيكتور هيجو في أحدى قصائده أن يقول:
(حين نسمع صوت الذين نحب،
فليس من حاجة بنا
لفهم ما تعنيه الكلمات)
لقد اختصر هيجو كل شرح يمكن له أن يصف ذلك التأثير الساحر للنغم المحبب معتمدًا على الخبرة الجمالية لدى المتلقّي من خلال تجاربه مع الموسيقى ومدى فهمه للقيمة الجمالية الراسخة فيها كفن أوّلًا، وثانيا كلغة أساسية لا تقل أهمية، بل تتجاوز اللغة المحكية في قدرتها على الأداء، وهذا الاختصار الفيكتوري (نسبة الى فيكتور هيجو) أدركته (ليندا إبراهيم) ووظّفته بعناية في نصها النثري (غواية) فأضافت من صفات الكائن الحي (المرأة) طقوسًا تنفرد بها على آلة الكمان، واخذت من مواهب الكمان تلك القدرات التي جعلت من الطقس الأنثوي مناسبة لبيان طاقاتها في صنع الجَمال:
(لام نُون طِين
وهذا الجَسَدِ الأنين
أَكْتُبُني… أنا نَصُّكَ الأوَّلُ.. الآخرُ… الأزَل…
أَكْتُبُني… أنا وردةُ الغَمْرِ الأولى
ذاتُك القديمةُ المُتَجَدِّدةُ
أَكْتُبُني… حقيقتَكَ العارية
وأُعلِنُني قيامةَ روحِك
أنا كلمتُكَ مذ نفَخْتَ في صَلْصَالي رغبَتَك
فكنتُ نقطةَ النُّون
استدارةً تامَّة الخَلْقِ مُكتمِلةَ السِّرِّ، سِرِّك
أَكْتُبُني قُبلةً من حبقٍ، على خَدِّكَ العاشق)
هنا، ينبثق صوت آخر يرد على (ليندا)،انه (محمد نوري قادر) يقول:
(انتظرتك طويلا،
الهذيان لا يجدي
تعالي معي
نمسك بالمزمار لنوقظ الفرح……
….. بشغف سأعزف لك الحان الطريق
سأزيح الستائر وانغرس في الوله
الأبله وحده من يصفق للعاقبة
الأبله وحده من يرى المروج في عاهته)
هكذا تأتي تفاصيل أخرى للحكاية، يأتي عزف مُغري لذيذ، تأتي الحكاية في سردية تنزع عن العاصفة غموضها، وتجد (ليندا) من يستجيب لإغرائها، ولغواية الاوتار الأربعة بين يديها، (محمد نوري قادر) في نصه النثري (تعال نعزف معا) صاحب الشغف الذي يريد ان يمسك المزمار ليوقظ الفرح، وكأن (ليندا) تتوقع، بل تنتظر من يجيد مهارة تلبية النداء، فتعود ليكتسيها وقار البوح المتزن، وتعتني بهدوء البدايات، وتجعل من فوضى (شتراوس) سببا لسرد تفاصيل الحلم الأول:
(“كلُّ شيءٍ يبدأُ من الحُلُم…” حُلُمٌ أوَّل…
حلُمْتُ بك تُعَرِّيني من أستارِ الليلِ السَّبعة:
ستار العتمة، ستار الليلك، ستار الغَواية
ستار الفتنة، ستار الرَّغبة ، ستار حَوَّاء
ستار الهزيعِ الأخير ما قبلَ الحُبّ
حتى تكشَّفَ بابُ الشِّعر…
وبينما عينايَ تجوسانِ لهفتَكَ،
رُحْتَ تَخُطُّ سِفْرَ الشَّهوة الخالد:
لثمٌ… تباريحٌ… قُبَلٌ… آهاتٌ… لَذَاذَاتٌ…
حيثُ كلُّ شيءٍ مُباحٌ على كوكبِ الغبطة الفَتَّان)
لكن هذا الفيض من الموسيقى لا يجد الأبواب مفتحة أمامه دائمًا، بل ربّما تنطلق أصوات معاكسة تريد لأوتار شاعرتنا أن تتقطع، ولأنامل عازفها الذي تناديه أن تُبتَر، منها صوت الشاعرة (ثريا ملحس) ، في قصيدتها (نحو نون ميم ذال):
(كان واجبًا علينا أن نوقف وحشية الذكر في أبنائنا
كان واجبًا علينا أن نصرخ في وجه الرجال:
أيتها الوحوش كفى كفى كفى
أيها الوحش في نفوسكم في قلوبكم كفى كفى كفى
أيها الشر فيكم كفى كفى كفى
ماذا لو رحلت النساء يبحثن عن أرض غير أرض الرجال
يهددن الوحش في الرجال..؟)
هذا الصوت المرعب، العدائي، الذي يرفض، ويهدد، ويتوعّد، لكنه لا يسحب (ليندا) من مقعدها ضمن جوق العازفين، لا تتنازل عن ثقتها بقدرتها على الانطواء عند انحناءة عازف ماهر يجيد استثارة أوتارها الأربعة لتلد أجمل الألحان، فتسترسل في معزوفتها:
(انتبهتُ من حلمي… كُلُّ شيءٍ حولي راقدٌ هاجعٌ هانئٌ…
وثمَّةَ قرنفلةٌ فوق غمرٍ، وأثرُ رمحٍ لمحاربٍ قديم
حُلُمٌ أيضاً… تماماً، كما حلُمْتُ بك:
مُحاولاً، دؤوباً، هادراً، صاخباً، نَهِماً بضفافي…
تُوزِّعُ وجهَكَ الكريمَ على روحي، علَّك تحتويها،
فأرتدُّ إليَّ مُولعةً بكَ أكثر…
وجهُكَ نشيدُ الأزل للأبدِ،
وجهُك حكاياتُ ألفِ موجةٍ وموجة،
تقُصُّها عرائسُ الزَّبد
على عشَّاقكَ المتربِّصين بلحظة عشق…
رأيتك.. تُؤَرْجِحُني…
على سرير فتنتك الرَّابضة
أنا وأنتَ، متوحِّدان في حضرتكَ
حضرةِ العَاشقِ العظيم…)
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
بابل 2025