الباكورة والغليون قصة قصيرة: د. وليد زيدان اللهيبي / جمهورية العراق

الباكورة والغليون قصة قصيرة: د. وليد زيدان اللهيبي / جمهورية العراق
الباكورة والغليون
تعودت أن أراه في منطقة الباب المعظم رجل كبير طاعن في السن ترك الزمن آثاره على وجهه اَلْمُمْتَلِئ بالتجاعيد كأنها أخاديد قد حُفرت في الأرض، يحمل غليونه الخشبي الذي رافقه أغلب سنين عمره وبيده الأخرى باكورته ( عصا يتوكأ عليها ) ترى آثار التدخين واضحة على شاربه الأبيض وعلى لحيته البيضاء أيضاً حيث اكتسبا لون أصفر من كثرة التدخين، كانت الابتسامة تشع من عينيه تكاد لا تفارقه، كما أنه لا يفارق الرصيف الذي يجلس عليه في تلك المنطقة أبداً.
حتى أصبح هذا العجوز رمز من رموز الباب المعظم المزدحم بالسيارات والباعة والمارة، حين لا نراه نشعر أننا ليس في الباب المعظم وحين نركز أكثر بلى أننا فيها.. لكن رمزنا اليوم غير موجود.
– قال أحدنا هل قضى صاحبنا نحبهُ.
– قال الآخر لا سامح الله ربما يكون مريضاً.
– قال الثالث ربما ذهب لمحل ما يتناول طعامه.
قلت في نفسي إن هذا الرجل العجوز يحمل أسرار بقدر سنين عمره أسرار الحياة وأسرار العمل السياسي في العراق لأنه عاصر عدة أجيال وحكومات ويبدوا أنه عاشها منذ الاحتلال البريطاني إلى الملكية إلى الجمهوريات المتعاقبة.
انتبه أحدهم وفاجأني إلى أين وصلت في صمتك هذا.
– أجبته أبداً لم أكن بعيداً عنكم كنت أُحدث نفسي عن الرجل العجوز موضوع حديثكم وغادرنا المكان كُلاً إلى جهة سكنه.
بقيت صورة الرجل العجوز تدور في ذاكرتي أسأل نفسي ألم يكن له بيت يأويه ألم يكن له ولد يرعاه
. . . أليس من واجب الأبناء رعاية الآباء عند الكبر، لِمَ لم يعتني به ولم تُغسَل ملابسه بل لم يغتسل هو أيضاً. أيكون مشرد إلى هذه الحدود وقد أفنى سنين عمره عملاً في هذا العراق المعطاء. وتتزاحم في رأسي التساؤلات والأفكار وتبقى صورته عالقة في ذاكرتي تذكرني بأيام السبعينيات.
حاورته يوما لِمَ أنت هنا في هذا المكان، نظر إلى نظرته المعهودة دون أن يفصح بكلام.
– أيها الشيخ الجليل ماذا تحمل من ذكريات الأيام وتعاقب الحكومات والأيام؟
لم يجبني إلا صمته كأنه نوع من الاحتجاج والاعتصام.
– شيخي الفاضل أليس لكَ ركن تأوي إليه أو ولد يتكفلك ويرعاك؟
رفع رأسهُ ودخان غليونه يملىء الفضاء ودمعة ألم وحسرة نزلت من عينيه ملئت تجاعيد وجهه ويداه ترتجفان ولم يجبني بأي شيء.
وأيقنت أن أيام عمره محصورة بين الباكورة والغليون وتمر الأيام ونمر من نفس المكان ولم نجده، أيقنا بأن هذا الشيخ الجليل قد فارق المكان ولم يعد رمزاً فيه لقد توفى.. قلت لمن معي.
ورددت مع نفسي كان الأولى من أصحاب المحالّ التجارية أن يضعوا صورة كبيرة له تذكر الناس بهِ وليبقى شاهد على هذا المكان والزمان.

