فنية

رحلة فكرية مع الكاتب والشاعر والناقد العراقي د. حاتم الصكر 

رحلة فكرية مع الكاتب والشاعر والناقد العراقي د. حاتم الصكر

حوار : دنيا صاحب – العراق

الجزء (2)

§ تناولتَ قصائد النثر في العديد من القراءات النقدية ما السمات أو الجوانب التي تثير اهتمامك في قصيدة النثر كي تكون مشروعًا نقديًا بالنسبة لك؟

 

التي تمثل قصيدة النثر في الكتابة الشعرية العربية مرحلة شاع وصفها بأنها الحداثة الثانية كان ظهورها عربياً ضرورةً حوّلت مسار التجديد، وما رافقه من حداثة أولى محددة نوعاً ما بالوزنية أو الموضوع الشعري والإيقاع الخارجي.

توفر قصيدة النثر للشاعر والقارئ معاً حرية التعبير الشعري وتلقيه دون وسائل نغمية تشوش رسالته، إنها تمنح القصيدة فسحة للاندماج بعصرها واستكناه معاناة الإنسان وأحلامه ومخاوفه تنصبُّ شعرية قصيدة النثر على تشكيل حر للمشاعر الأنا الشعرية حاضرة فيها ، لأنها لا تحتكم إلى قوانين خارجية جمعية لذا كتبتُ مرة أن لكل شاعر قصيدةَ نثرِه كما أن الأجيال هي اجيال الشعر لا الشعراء. إنها تنبني على عناصر جديدة غير معيارية و تهتم بالتكثيف والإيجاز والتوهج واللازمنية التي تطلق عنان خيال الشعر، وتوسّع أفق قارئها وترتقي بطرائق التلقي غير التقليدية. لا تبحث قراءتها عن تحقق المعيارية الوزنية كموسيقى خارجية ولا التقفية كزخرف من البديع واللفظي والشكلي الفارغ والمتكلف غالباً بل تسترسل وتتوخى ما فيها من جماليات وتثاقف مع الإنساني في الكتابة والفكر والفن.

تلك بعض أسبابي للعناية، بل العكوف على الاهتمام، بشعرية قصيدة النثر وآفاق تلقيها وكتابتها.

من أجل ذلك قدمت عدة مؤلفات حول إيقاعها البديل و اتجاهاتها الفنية في كتابيَّ( حلم الفراشة)2004 و(الثمرة المحرّمة) 2019، واستثمارالمخيلة والذاكرة في كتابتها وحاولت تصنيف موضوعاتها وأبرز ذلك ما تناولته في آخر كتبي ( الميتاشعري في قصيدة النثر العراقية) 2024حول ظاهرة الكتابة الميتاشعرية ،أي جعْل القصيدة تفكر بنفسها ،وتتحدث عنها موضوعاً لها، وعن دلالاتها وموقعها في فكر الشاعر وإحساسه ورؤيته.

قصيدة النثر قصيدة المستقبل الشعري المواكب للعصر في تقدمه، والرافضة لما يعترض الحرية والحلم والعدل والجمال، وما يعانيه الإنسان في تحولات حياته وفنونه وآدابه .

§ هل يمكن القول إن النقد، كما تمارسه في كتبك مثل “نقد الحداثة”، يسعى إلى تصحيح المسارات الإبداعية، أم إلى إعادة تأويلها فحسب؟

§ التأويل عملية تستند إلى إسقاط قوة القراءة على النص لفهم ملفوظه وتفسيره وبناء كيان نصي موازٍ له، ينطلق من النص، دون أن يتطابق بالضرورة مع قصد المؤلف، أو ما تمنحه المعاني والدلالات المعروضة على سطح النص أو مبناه ومتنه بل تحفر في توسيعات المعاني وما يختبئ خلفها من دلالات مسكوت عنها.

بهذا المعنى قمتُ بقراءة الممهدات النقدية التي رافقت التحديث الشعري في الكتابة.

ومنها ماهو اجتماعي وما هو فني جمالي، ومنها ما اقترح تحديثاً تؤازره تجارب الكتابة في العالم وقمتُ بقراءة عيّنات من تلك الممهدات التي كُتبت كنقد للحداثة أو التمهيد للتجديد الشعري وحاورتُ ما قرأت وبينت مدى التقائه بمجرى نهر الحداثة الشعرية وما أضاف له أو ما قدمه بخجل أو تردد أوبحماسة واندفاع أحياناً وأحياناً ما انقلب على التحديث الشعري، كالدعوة إلى زمن الرواية، وموت النقد الأدبي وتسفيه الحداثة كمشروع ولم أكن معنياً بتصحيح المسارات كما جاء في السؤال ، بل اكتناه الإضافة والدعم مشروع الحداثة، وتأويل مرامي نقاد الحداثة قرباً وبعداً عن سهم انطلاقتها ، وحرية القصيدة والقراءة.

§ كيف انعكست تجربة المهجر والعيش خارج الوطن على أسلوبك في الكتابة النقدية والإبداعية؟ وهل وجدت في الغربة أفقًا أوسع أم شعورًا بالانفصال؟

 

§ كثيراً ما أجبت على مثل سؤالكم بالقول إنني وصلت المهجر أو المغترب كبيراً في عداد العمر ومتكوناً من الناحية الثقافية والدراسية بشكل ما هنا يصعب الحوار مع المكان الجديد والتفاعل معه بما يكفي لم تسعف محدودية اللغة ولا القدرة على الاندماج بفعل تثاقف محدد وكافٍ في المهجر حصل ذلك حتى مع رواد المهجر من الجيل الشعري الأول مثلاً، فكانوا يتمسكون بثقافتهم وأساليبهم الشعرية بالنسبة لي لا أضع موانع أو شروطاً، لأن عُدتي النقدية أصلاً لا تركن لقديم ،أو تتمسك بتقاليد نقدية محافظة من هنا كنت أواصل في المهجر صلتي بالثقافة العربية والنقد الأدبي مضيفاً لذاك شيئاً من الحرية في التأويل لم أكن استطيعها في البلدان العربية. وكذلك توسَّع مفهوم الثقافة عندي ، لما أرى من عناية بالفن والعمارة والثقافات الشعبية وجزئيات الحياة كالأزياء والرياضة والطعام وثقافات الشعوب العديدة من حولي هنا في الجنوب الأمريكي حيث أعيش أعراق وأجناس وثقافات مهاجرة متعددة المراجع ألوان ولغات وتقاليد متنوعة وذلك فتح أفق تعرفي الإنساني بصورة مجسمة ومحسوسة وربما يمكن رؤية ظلال ذلك التأثر في كتابي (تنصيص الآخر) الصادر عام 2021 ، ودراساتي عن تمثيل الآخر في الشعر.

§ ما هو دور النقد الفلسفي في تحليل الفن التشكيلي والأدب، خاصة الشعر؟

 

§ الشق الفلسفي في تلقي الفن يكاد يقتصر على موضوعين: المضامين الإنسانية والتعامل الفني مع القضايا الكبرى في الحياة ،كالحريات والحروب والأحلام والانتماء والزمن ومشكلات الموت والآخر والغربة وغيرها، والموضوع الآخر هو جماليات الفنون وفلسفتها .وتلك قضية تشترك فيها الفنون جميعاً لكن للتشكيل حصة أوفر بكون التشكيل لغة عالمية لا تحتاج لترجمة أو تفسير للمتلقي حيث يكون وربما كان الأدب أقل عرضة للتأثر بسبب خصوصيات لغوية وتعبيرية، تتعلق بكونه فناً زمانياً وقولياً، فيما يُعد التشكيل فناً مكانياً، يتمضوع بصريا ويمنح متلقيه فرصة التعامل معه بلغة مشاعة وبحرية أكثر

وقد قدمتْ الدراسات الجمالية حتى من زاوية فلسفية الكثيرَ لعملية الكتابة والتشكيل ولقراءتهما أيضاً وهذا الأمر دعا لتجديد الأساليب الفنية والبحث عن الجميل في أماكن وزوايا لم تكن معروفة أو معهودة في النصوص الفنية والأدبية في العصور الماضية.

§ في نصك ‘بكائية 14’ الذي كتبته في ذكرى عدي، يهيمن الحزن والغياب وصراع الذاكرة مع الفقد. كيف ترى دور الكتابة الشعرية في مواجهة الفقدان؟ وهل تجد أن كتابة شعر طقسٌ لاستحضار روح الفقيد أم محاولة لسد الفراغ الكبير الذي تركه الراحل؟

§ تسألين عن الجرح المفتوح في حياتي فقْدي لولدي وهو في الثالثة والثلاثين في عمل إرهابي غرب بغداد، حيث تم خطفه على الهوية فحسب كان هارباً إلى الخارج مع زوجته ووالدته وولديه من جحيم الطائفية وعنف الإخوة الأعداء و هيجان الفكر التكفيري الذي تسلل إلى مجتمعنا بمشروعه المتخلف والمصحوب بالعنف المفرط ، و جنون التدمير حتى لآثار العراق وجماليات مدنه وطبيعته ونسيجه الاجتماعي هدمَ الدواعش مثلاً وكسّروا الآثار المتبقية من الحضارة الآشورية العريقة في نينوى وهدموا حتى رواسم الحضارة العربية الإسلامية كالمساجد القديمة والكنائس ومظاهر التحضر.

وصلني الخبر وأنا أعمل مدرساً في جامعة صنعاء لم يكن بمقدورنا فعل شيء ولم تثمر الاتصالات والبحث عن وجوده منذ لحظة خطفه هكذا كانت الواقعة مدمرة بالمعنى الحرفي للكلمة لا جثة له ولا قبر ولا خبر عنه ترك عائلته في خلاء الانتظار والصبر المر النافد تغيرت حياتي بدرجة لا تصدق واضطررت للهجرة كي أمنح أسرته في الأقل أملاً و مناخاً آمناً وتعليماً يعوضهم عن الخسارة التي لقيناها في عراقنا الجارح الجريح.

سيرهق الحدث ذاكرتي ومخيلتي وصفائي النفسي وسوف ينعكس حتماً في ما أكتب بلوعة حادة وحزن فادح كابرت كثيراً كي أخفيه عن الأسرة والأطفال، لكن ما أكتب يخترق ذلك الحذر، فيتكثف الألم ويغدو ممضّاً قاتلاً لا يرحم كانت الهجرة من أكثر خسائري الشخصية، حيث لم أشأ الابتعاد عن محيط ثقافتي وحيويتي العلمية والأدبية. ولكن هذا ما حصل.

الكتابة أنقذتني من الموت بعد الواقعة وأنا مدين لها بصبري وتحمّلي رغم ما يرهقني ويثقل كاهلي في الكتابة كنت أصنع بشراسة وصعوبة معاً، كمية من الصبر علاجاً.وكنت أضمّن ما أكتب في مناسات الفقد واستذكار الفقيد ، رسائل لأصدقاء الألم الآخرين والقراء والناس ،حيث يمكنني الوصول إليهم أشاطرهم مأساة الفقد وأمرّن نفسي على التعود عليه.

§ إلى أي نوع تميل وجدانيًا في اختياراتك عند صياغة نصوصك الشعرية؟” بصورة استثنائية.

– إذا كان المقصود في السؤال هو النوع الشعري، فإنني مررت بمرحلتين: الأولى المبكرة التي تعتمد الكتابة الوزنية والمجددة ، أوماعرف بالشعر الحر، واللاحقة التي تعتمد قصيدة النثر .ولكني أعتز بالمرحلتين، وقد فعلتُ ذلك في جمع دواويني الصادرة في كتاب شعري واحد مؤخراً ، عنونته ب(ربما كان سواي في الدواوين الأربعة). وقد تفضلتْ الناقدة والأكاديمية الدكتورة رائدة العامري بالإشراف على جمع الدواوين التي صدرت في سنوات متباعدة وأماكن متفرقة، و قامت بطباعتها ونشرها مشكورةً عام 2023. وأشرفتْ على إحدى طالباتها في دراستها للماجستير حول القصائد

ويهمني القول إن اللحظة الشعرية التي نكتب فيها هي التي تحدد طبيعة المعالجة الشعرية. فقد تكون المهيمنة في النص لغوية أو نفسية أو اجتماعية أوحدثية، فتأتي القصيدة متضمنة طبيعة الأسلوب الملائم لتوصيلها ولكن بوفق الرؤية التي أراها أهم من المنهج والطرائق التي يقترحها وفي رؤيتي للحداثة كمطلب للكتابة أتخذ الأسلوب المناسب لتأكيد زاوية رؤيتي و المحتوى الذي أريد توصيله.

§ في ختام هذا اللقاء، ما الرسالة التي تود أن توجهها للكتاب والنقاد الشباب والقراء ؟

 

§ كنت في دراستين منشورتين قد فنّدتُ إمكان توجيه نصائح في مجال الكتابة بأنواعها.ولمحمود درويش قصيدة ( رسالة إلى شاعر شاب) في هذا الصدد ، يقول فيها للشاعر الشاب :لا نصيحة في الحب لكنها التجربة

لا نصيحة في الشعر لكنها الموهبة…./ وابتدئ من كلامك أنت.

كأنك

أوّل من يكتب الشعر،

أو آخر الشعراء!

إن قرأت لنا، فلكي لا تكون امتداداً

لأهوائنا،

بل لتصحيح أخطائنا في كتاب الشقاء

النصيحة تتضمن غالباً معنى فوقيا ومتعالياً. لكن من الضرورة التعلم ذاتياً من تجارب الآخر، واستخلاص درسٍ ما أو فكرة أو منهج. فبدلاً من ذلك يتم توجيه (رسالة) كما جاء في سؤالك الذكي ، وخلاصتها عندي : أن نتفهم التحولات في الرؤية والكتابة، مع متابعتنا لتاريخ الأدب والفن بالقراءة الدائمة المتنوعة.ولكن المهمة الأكثر أهمية هي تطوير أدواتنا وكتابة نصوصنا بإيقاع عصرنا ،حيث تختلط الفنون وتنفتح على بعضها ، و تستجد طرق التوصيل والتواصل .ما يستلزم أن نكون في عصرنا لا على هامشه أو في حواشيه مع تحفظ ـ و استدراك واحد وهو الحفاظ على أدبية الأدب وعدم مسخِه أو محوِه أو تبسيطه بسذاجة ،تبعاً لإغراءات الرقميات والتقنية والتقدم الفائق في الذكاء الاصطناعي.فالأدب الفن مهمة فردية إنسانية، وما عداه من المبتكرات المغرية ليست إلا وسائط لتسهيل وصوله والحوار معه وقراءته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار