السياسيةالمقالات

مراجعات أخلاقية في الموقف من الأحداث الأخيرة..د. وسام حسين العبيدي. العراق 

مراجعات أخلاقية في الموقف من الأحداث الأخيرة..د. وسام حسين العبيدي. العراق

في الأحداث الساخنة الأخيرة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل، انصدع التلقّي العربي والعالمي – كالعادة – لهذه الأحداث إلى فريقين: أحدهما يشمت – بل بعضهم يعلن الفرح – بالاعتداء على إيران وقتل كبار قادتها، وضرب مواقع ستراتيجية فيها، والآخر: يقف بالضدِّ من أولئك، إذ يعلن مناصرته وتضامنه مع إيران قلبًا وقالبًا، وقد تختلف نوعية ردود الفعل بين هذين الفريقين، بين ردود نظريّة (تصريحات، نشر أخبار تروّج لتفوّق جهة في الضربات الموجعة على جهة أخرى وغض النظر عن أخبار جهة أخرى لها ما لعدوّها من القوة والبأس) وبين ردود عملية تُترجم تضامن أو اصطفاف دولة مع هذه أو تلك. وهنا لا أريد الخوض في الحديث عن تفاصيل ذلك الاصطفاف العَمَلي الذي يترجم تضامنًا واضحًا ملموسًا مع إيران أو مع الكيان، فهذا له خبراؤه العسكريون فهم أولى بتحليل الموقف على الأرض. وقد أشيرُ إليه ضمنًا في الحديث عن النوع الأول من ردود الفعل المُشار إليه آنفًا، وأقتصر على المجتمع العربي بعامة والعراقي بخاصة، في انقسامه “النظري” بين مؤيدٍ للردع الإيراني لإسرائيل، متفاعلٍ مع الأحداث أوّلاً بأوّل، بتضامنه مع إيران، من خلال ما ينشره على صفحات التواصل الاجتماعي، من خطابات أو تصريحات أو مشاهد مصوّرة كلها تصبُّ في خانة التفوّق العسكري لإيران في الرد على اعتداء إسرائيل لها، أو من مشاركة لمنشورات الآخرين التي تتضامن هي الأخرى في تعضيد التفوق العسكري لإيران في رده على إسرائيل، ويدخل في هذه المشاركة توظيف الأخبار التي تنشرها القنوات الإعلامية للعدوّ من أخبار تؤكّد وقوع تلك الضربات الموجعة على مستوطناتهم، بما يضفي قوّة حجاجية ودعم معنوي لهذا الفريق من المتضامنين مع إيران، من باب: “وشهد شاهدٌ من أهلها” وهنالك في الجانب الآخر من يقف بالضد من إيران، ويحاول في كل ما لديه من نشاطٍ “نظري” صبّه باتجاه بيان أكذوبة الترسانة العسكرية الإيرانية، وتكذيب كل ما يصدر عنهم من ردودٍ عسكرية، أو في حال الاعتراف بها، يتضامن بصورة أو بأخرى مع كل خبرٍ يبثه إعلام الكيان الغاصب أنها ضربات لم تؤدّ إلى خسائر، أو وقعت في أماكن مفتوحة غير آهلة بالسكان، أو أنه تم اعتراضها من قبل الدفاعات الجوية للكيان، أو ممّن تضامن معها من دولة مجاورة تعمل بموجب معاهدة السلام المبرمة منذ التسعينات مع الكيان، وبموجبها تعمل على الحفاظ على أمن وسلامة الكيان من خلال صد كل اعتداء عليه من خلال اعتراضه جويًّا وبريا وبحريا، أو ينفي ما تناقلته وسائل الإعلام من ضربات، بما يؤكّد بصورة مباشرة أو غير مباشرة اصطفافه مع العدو المشترك للعرب المسلمين ولإيران. وهؤلاء قد تختلفُ دوافعُهم في اتِّخاذهم هذا الموقف، فبعضهم من يعيش ذاكرةً مأزومةً من الحرب التي وقعت بين البلدين المُجاورين: العراق وإيران، في الثمانينات من القرن العشرين، وقد طُويت صفحتُها، مثل كثيرٍ من الحروب التي تنشبُ بين بلدانٍ مجاورة، وتبدأ بطيِّ خلافات الماضي، وتتوطّد العلاقات بينهما وكأنَّ شيئًا لم يكن. أمّا هؤلاء الناقمون على إيران، فهم لِعُقدةٍ مُستحكمةٍ في نفوسهم تدفعهم لذلك العداء، وهم – بغضِّ النظر عن المُتسبِّب بتلك الحرب – لا يُجيدون التصالح مع ماضيهم، وترميمه بما ينبغي ليعود مُعافىً من أدران تلك العُقد التي تدفع إلى ذلك الموقف غير الإنساني من إيران، بالتشفِّي من قتل قياداتهم، والاصطفاف مع العدوِّ الصهيوني وتمنِّي انتصاره على إيران، في حين أنَّ هنالك مشتركات بين إيران والعراق لا تقتصر على الجغرافية فحسب، بل الجانب الديني، فهي دولة إسلامية على أيِّ حال، وبغضِّ النظر عن هويّتها المذهبيّة، لكنّها على أي حال من ضمن “منظمة التعاون الإسلامي” فمن باب الأولوية أنْ يتفاعل العربيُّ المُسلم مع دولةٍ مُسلمة تتعرَّضُ لاعتداءٍ من دولةٍ غير إسلاميّة، وهذا ما يقتضيه العرفُ الأخلاقي، بأنْ يتحسّسَ المُسلم ألمَ أخيه المُسلم قبل غيره، وجسد ذلك قوله سبحانه: “إنما المؤمنون إخوة”، والحديث النبوي: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”، وغير ذلك من شواهد تُدلِّل على ما ينبغي أنْ يكون عليه المسلمون مهما اختلفت ألوانهم وقومياتهم، ولغاتهم، فرباط الأخوة الإسلامية هو الذي يُوحِّدهم إزاء العدوِّ المشترك وتهديده لمصالحهم.

وبحسب ما رسمه القرآن الكريم من نهجٍ في التعامل مع الآخر، لا تتوقّف حدود التضامن مع المسلم فحسب، بل يُمكن أنْ يدخل غير المسلم من أصحاب الديانات التوحيدية، في حال العدوان عليه من قبل الآخر الذي لا يدين بأي دين، وهنا نستحضر سورة الروم التي خلّدت الموقف الإسلامي بتضامنه مع الروم – وهم ممّن لا يدينون بدين الإسلام بل كانوا فيما بعد ذلك عدوًّا للمسلمين وقاتلهم الرسول في معركة تبوك – الذين اشتبكوا مع الفرس، وكان للأخير أنْ ينتصروا على الروم، وقد “فرح أعداءُ الإسلام والمشركون في مكة بهذه الواقعة وتفاءلوا بها خيرا واستدلوا على حقانية دين الشرك فقالوا: إن الايرانيين “مجوس” ومشركون “وثنيون” أما الروميون فهم مسيحيون أهل كتاب، فكما تغلب الإيرانيون على الروميين، سيكون النصرُ حليفَنا أيضا نحن المشركين، وستُطوى صحيفةُ حياة محمد (ص) وتكون الغلبةُ لنا ولمعتقداتنا. إنَّ هذا النوع من الاستنتاج والتفاؤل وإن لم يستند إلى أيِّ قاعدة منطقية، إلا أنه لم يخلُ من تأثيرٍ إعلامي في جو ذلك المحيط، ولهذا السبب كان تأثيره شديد الوطأة على المسلمين” ، فكان للقرآن الكريم أنْ يُبشِّر بانتصار الروم بعد بضع سنين، بما يؤكِّد على أمرين: الأول على إعجازه في إخباره بالمغيّبات، والآخر: في تأكيده شرعية تضامن المسلمين مع الروم – وهم من أهل الكتاب – ممّن هم أقرب للمسلمين في المعتقد بصورة عامة بالنسبة إلى معتقد أعدائهم الفرس، بما يمكن للإنسان السويِّ التفكير أنْ ينطلق من هذا الموقف القرآني الأخلاقي، ويؤسِّس عليه موقفه الراهن ممّا يحصل من اعتداءٍ على إيران من قبل الكيان الصهيوني الغاصب، ويرى أنَّ منطق القرابة في الدين تُسوِّغ له ذلك التضامن مع هذه الدولة، فضلاً عن البُعد الجغرافي الذي يجمع هاتين الدولتين، مثلما يجمع العراق ببقية الدول العربية، وبحسب هذين المُنطلقَين لا ينبغي لعراقيٍّ أو أي شخصٍ عربيٍّ أنْ يفرح أو يشمتُ لما يتعرَّضُ له بلدٌ عربيٌّ، أو مجاورٍ له، من اعتداءٍ أو قصفٍ، أو حتى وقوع كوارث طبيعية – مثلما حصل قبل سنتين أو أكثر في تركيا قبل سنتين أو أكثر- وهما في الوقت نفسه لا يتعارضان والجانب الإنساني الذي يقوم أساسًا على التواصل مع الآخر فيما فيه الخير بكلِّ ضروبه ومختلف مجالاته، أما الاصطفاف مع العدوِّ تحت أيِّ عنوان، فهو غير مُبرّرٍ لا شرعًا ولا عقلاً ولا تحت أي عنوان، إذ كرّس هذا العدوان على مدار عقود جرائمه المنظّمة التي يندى لها جبين الإنسانية في قتل الفلسطينيين وتهجيرهم واعتقال رجالهم ونسائهم، وتركهم في العراء تحت رحمة المخيّمات القاسية، كلُّ هذا ينبغي أنْ يدفع العرب الشرفاء بعامة والعراقيين أنْ يقفوا ولو بالكلمة، ولو بالدعاء لمن يقف بوجه الصهاينة، ولو بعدم الترويج لعدوانهم وبيان حجم الخسائر التي أوقعوها في من يقف بوجه غطرسته، ولو بالسكوت على أقلِّ تقدير، في عدم إبداء الآراء التي من شأنِها تسويغ الاعتداء على إيران وجعلها والكيان الغاصب في سلّةٍ واحدة من الشرِّ والإيذاء بالآخرين، وهذا ما نجدهُ عند طيفٍ واسعٍ ممن أضاع بوصلته، وأطلق العنان لمخيّلته في نسج مسرحيةٍ يلعبها الكيان وإيران.. إلخ من تصوُّرات أثبتت زيفها، وفي الوقت نفسه أثبتت بُعد مُطلقي هذه التصوُّرات عن الواقع، وارتكاسهم في أوهام أساسُها الكُره، وهؤلاء ممّن لا يرى وراء أرنبة أنفه، ممّن يُطلق على إيران إلى الآن مصطلح “الفُرس” مُحاولاً التأكيد من خلال تكراره ذلك الوصف، أنّهم لا علاقة لهم بالإسلام، وهذا المنطق الاتِّهاميِّ الارتيابي ليس إلا انتقاصًا من أمّةٍ بكاملها وما صدر لها على مدار قرون من منجزٍ فكريٍّ في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، ولاسيما في المجال الديني: فقهًا وأصولاً وبلاغةً وقواعد للغة العربية، وفلسفةً وتفسير قرآن .. إلخ من علوم قرآن، ولا يقتصر على مذهبٍ دون آخر، بل غطّى مختلف الفرق الإسلامية، ناهيك عن بروز كبار علماء تلكم الفرق من أصول تلك الأمّة، وعليه فمن الظلم والإجحاف أنْ نرى المشهدِ بعينٍ واحدة، بل بعينٍ عوراء، تدفعنا من حيث نشعر أو لا نشعر للاصطفاف مع المعتدي. وأتخطّر أنَّ البُعد الإنساني الرحيب هو المنطق الصحيح الذي ينبغي أنْ نكون عليه في إدانة إجرام الصهاينة واعتدائهم على دولةٍ جارةٍ منذ الأزل وإلى ما شاء الله، في حين أنَّ هذا العدوان قد لا يبقى لكيانه سوى أيامٍ معدودة، وإن بقى لسنوات، فلن يبقى إلى ما شاء الله بحسب الوعد القرآني الصادق، وهذا ما يأمله كلُّ مسلمٍ، بل كلُّ إنسانٍ مُنصفٍ وضع ضميره نصب عينيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار