الأساتذة بين مطرقة التأجيل وسندان الوعود… علاواتٌ مجمّدة وحقوقٌ مُعلَّقة!

بعد 20 عامًا.. من التهميش
الأساتذة بين مطرقة التأجيل وسندان الوعود… علاواتٌ مجمّدة وحقوقٌ مُعلَّقة!
الموارد الطبيعية تنضب.. والعقول لا تنضب.. فلماذا التمييز ضد وزارة التعليم
وزارة المالية في العائد البائد تُصنّف التعليم كرفاهية.. فمَن يُصنّف الجهل ككارثة
من يُنتج المُنتِجين؟ التعليم العالي ساحة استثمار أم ضحية بيروقراطية؟
بقلم الكاتب والمحلل الاكاديمي
أ م د مهدي علي دويغر الكعبي
التدريسي في الجامعة العراقية
مقدمة …
وزارة العقول المُهمَّشة… لماذا يُنظر إلى التعليم العالي كوزارة غير إنتاجية
مصنع العقول بين المطرقة المالية وسندان الإنجاز.. متى يُكرَّم صنّاع المستقبل
المقدمة …
اليوم ونحن نتابع ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي ومنابر وزارات الدولة نستشعر ـ بوعي أو دون وعي ـ لهفة دفينة تلامس أوتار القلب لهفة لا تشبه إلا لهفة النبي يوسف عليه السلام حين اشتدت عليه الغربة في المعتقل وكسر الصخر بيدٍ مجروحة حتى مرّ عليه أحدهم وشمَّ من جبينه عطر الأهل… فانتفض الحنين في صدره وتحرّك السؤال في داخله كيف حالهم؟ كيف حال قريتي؟
نحن اليوم نعيش ذلك الشعور ذاته… لهفة أبناء التعليم العالي لوطنٍ يحتضنهم بعد طول تغريب إداري وقهر مالي وأنتقل نوعي وبحثي يبهر الناظرين
ننظر إلى وزارتنا الموقرة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فلا نرى فيها مجرد مؤسسة جامعية بل نراها “وزارة العقول” والمصنع الحقيقي للاستثمار المعرفي والبشري الذي إن وُفرت له الإرادة والإدارة فسيبني وطنًا لا تهدّه الحروب ولا تستنزفه المؤامرات
إننا ونحن نشاهد عبر المنابر الإعلامية ووسائل التواصل ما يُسجل من إنجازات في مؤسسات التعليم العالي يراودنا إحساس متجدد بالانتماء لوطننا الجريح ذلك الإحساس الذي لا تصنعه الشعارات بل تصنعه لحظات نشوة نادرة تشبه تلك اللحظة التي مرّ فيها أحدهم على نبي الله يوسف عليه السلام وهو في السجن يكسر الصخور فلما شَمَّ على جبينه رائحةَ أهله انتفضت فيه مشاعر الحنين وعادت به الذاكرة إلى حضن القرية.
نعم، نحن اليوم نعيش لحظة يوسف. نكسر الصخور في معاقل الإدارات الجامعية نُدير المختبرات وندرس في القاعات ونبحث في الظلام عن نقطة ضوء وحنيننا إلى “الاعتراف بقيمتنا” يزداد يومًا بعد يوم
النظام البائد وتكريس التهميش..متى نغيّر النظرة الدونية للتعليم نظرة قديمة ما زالت تحكمنا …
ما زالت وزارة التعليم العالي تصنَّف بكل أسف على أنها وزارة غير استثمارية وغير إنتاجية وهذه النظرة ليست جديدة بل تعود جذورها إلى حقبة النظام البائد حيث لم تُدرَج الوزارة ضمن منظومة الحوافز والمكافآت كما حدث مع وزارات مثل التصنيع العسكري أو النفط. واليوم، وبعد أكثر من عشرين عامًا من التغيير السياسي لا تزال هذه النظرة هي السائدة!
فبينما سارعت معظم الوزارات إلى صرف العلاوات والترفيعات (وزارة المالية، وزارة النفط، وزارة الكهرباء، الوقف السني وغيرها)، ما زالت وزارة التعليم تنتظر منذ أكثر من سبعة أشهر دون تنفيذ هذه الاستحقاقات بل وتتذرع وزارة المالية بأن “الوزارة غير إنتاجية”! أيُّ قِصر نظرٍ هذا؟ وأيُّ ظلمٍ للعلم والعلماء .
وزارة التعليم … مؤسسة استراتيجية مصنع العقول هي الثروة الحقيقية ..
إن وزارة التعليم العالي ليست فقط وزارة مؤسسات بل وزارة عقول بشرية وهي الاستثمار الأكثر استدامة وربحية في العالم الحديث وهذا ما أثبتته الجمهورية الإسلامية الإيرانية في واحدة من أقسى الحروب السيبرانية والعسكرية حيث انتصرت بالعقل والعلم لا بعدد الطائرات أو حجم الترسانة.
اليوم حين نتابع الحرب غير المعلنة التي تقودها قوى الاستكبار ضد إيران نُدرك أن من انتصر ليس الجندي بل العالِم، والمُبرمج، والمهندس، وطلاب الجامعات الذين صاروا جنوداً رقميين في ساحات المعارك الذكية.
فلماذا يُنظر إلى وزارة التعليم في العراق على أنها مؤسسة إدارية فقط؟ ألا يكفي أن خريجيها هم من يصنعون الطائرات والمستشفيات والتقنيات النفطية؟ أليست هي من تُخرج رجال الدولة والوزراء والمشرّعين والقادة؟ أليس فيها من عقول ما يمكن أن يُغني العراق لعقود قادمة؟
طهران إلى بغداد… حين تنتصر العقول ..
لقد شاهد العالم مؤخرًا كيف انتصرت العقول العلمية الإيرانية في مواجهة الحرب الإلكترونية والتكنولوجية التي شنتها قوى الاستكبار بقيادة أمريكا والكيان الصهيوني.
لم تُطلق طهران صواريخ عبثية لكنها أطلقت طاقات علمائها ومهندسيها فتمكنت من تحييد طائرات وتشويش أنظمة وتطوير أدوات وفرض نفسها بقوة في ساحة الردع الإلكتروني والعسكري.
السرّ لم يكن في السلاح بل في السياسات التعليمية التي حولت الجامعات إلى مصانع تفكير، ومراكز بحث إلى خطوط دفاع أولى، والمعلّم إلى ضابط تطوير وطني.
من هنا نبدأ.
الدروس من الشرق الآسيوي .. تايوان واليابان شهادتان للتاريخ ..
لقد سُئل الاقتصادي العالمي ميلتون فريدمان ذات مرة عن أفضل بلد في العالم فأجاب تايوان! لماذا؟ لأنها بلا موارد وتستورد حتى الرمل لكنها حفرت في عقول أبنائها بدل أن تحفر في باطن الأرض وقال “البشر هم الطاقة الوحيدة المتجددة التي لا تنضب”.
واليابان كذلك رغم أنها دولة محطّمة نوويًا وخالية من الثروات الطبيعية تقريبًا إلا أنها غزت العالم بجودة منتجاتها وابتكاراتها العلمية لم يكن ذلك عبر ثروات باطنية بل عبر نظم الإدارة الحديثة والانضباط واستثمار المورد البشري.
نداء إلى القادة… أنصفوا وزارة العقول ..
إذا كانت هناك وزارة واحدة يجب أن تكون في أعلى سلّم الأولويات الوطنية، فهي وزارة التعليم العالي … إذا كانت هناك مؤسسة واحدة يجب أن تُعامل كأصل استثماري سيادي، فهي الجامعة …إذا كان هناك موظف يجب أن يُكرَّم، فهو الأستاذ الجامعي الذي بقي واقفًا في فوضى وطن لم ينصفه منذ عقود.
دعونا نكفّ عن تصنيف التعليم على أنه قطاع غير إنتاجي.
فهو مصنع المستقبل، ومحرّك النهضة، ودرع السيادة، وسلاح الردع الناع
ا نبدأ.
يا سادة القوم
يا من بيدكم القرار
أفيقوا من غفلتكم
إن لم تكن وزارة التعليم استثمارية، فمن إذًا يصنع من الطين بيوتًا، ومن الصمت خطابًا، ومن المختبر وطنًا؟
نحن لا نطلب ترفًا، بل نطلب العدالة.
لا نرجو امتيازًا، بل نطلب الاعتراف بالحق.
وزارة التعليم العالي هي مصنع الاستثمار العلمي، ومزرعة الإنتاج المعرفي، والمحرّك الحقيقي لأي نهوض وطني مستقبلي.
كفى استخفافًا بالعقول.
كفى إجحافًا بحقوق الاساتذة والباحثين والمعنين .
كفى تأجيلاً للترفيعات والعلاوات واستحقاقات الدراسات العليا.
ليُكتب في سجلات التاريخ… أنتم لم تُقصّروا فحسب بل فوّتم فرصة بناء وطن بالعلم.
في النهاية نقول… إذا كانت الدول تُقاس بثرواتها، فالعراق أغنى البلدان بعقول أبنائه… ولكن ما لم نُحسن إدارتها، سنبقى نكسر الصخور مثل يوسف، دون أن يشمّ أحدٌ رائحةَ الحنين إلينا