من “الدولة الحزبية” إلى “الدولة المؤسساتية” إصلاح دستوري عاجل ومعركة العراق لاستعادة هيبة مؤسساته.
بقلم … أ م د مهدي علي دويغر الكعبي
من “الدولة الحزبية” إلى “الدولة المؤسساتية” إصلاح دستوري عاجل ومعركة العراق لاستعادة هيبة مؤسساته.
بقلم … أ م د مهدي علي دويغر الكعبي
مقالة تحليلية – بين تسييس الوزارات وضياع الحقوق ومابين الانتماء الحزبي .
الولاء للوطن لا للحزب دعوة لتعديل قانون الخدمة المدنية لاستعادة روح الوظيفة العامة.
لم تعد وزارات الدولة في العراق ــ كما أرادها الدستور ــ مؤسسات خادمة للشعب بل تحولت للأسف إلى ساحات نفوذ حزبية كلما تغيّر الوزير تغيّرت معه السياسات والوجوه لا بحكم الكفاءة أو المهنية بل وفق الانتماء والولاء الحزبي هكذا ضاع الوطن بين لعبة الأحزاب وضاعت معه الأهداف التنموية التي كان يفترض أن تنهض بالمجتمع وتبني الدولة.
لقد أصبح الموظف العام الذي يُفترض أن يكون خادمًا للمرفق العام جزءًا من معادلة التبعية السياسية فبدل أن ينصرف لخدمة المواطنين أضحى بعضهم أداة بيد حزبه يلوّن قلمه ويغيّر قناعته بحسب المصلحة الحزبية لا المصلحة الوطنية وهذا ما ألقى بظلاله الثقيلة على المؤسسات فانهارت قيم الخدمة العامة وتغلبت المحسوبية على الكفاءة وغابت النزاهة أمام الولاءات الضيقة في زمنٍ غريبٍ ومشهدٍ مقلوب صار بعض الموظفين في مؤسسات الدولة يتفاخرون بانتمائهم الحزبي لا بانتمائهم المؤسسي يفاخرون بفسادهم لا بإنجازهم يتباهون بقدرتهم على التحايل وسرقة المال العام تحت مظلة الحزب لا بابتكارٍ أو إنجازٍ يخدم الوطن والمواطن وهكذا انقلبت المعايير وأصبح معيار الولاء الحزبي بديلاً عن الكفاءة وصارت المحسوبية بديلاً عن النزاهة فتحولت الوزارات إلى إقطاعيات حزبية تُدار بعقلية الاستحواذ لا بعقلية الخدمة العامة.
المؤسسات الحكومية التي كان يُفترض أن تكون مظلة لخدمة الشعب أُفرغت من مضمونها التنموي وتحوّلت إلى أدوات سياسية بيد الأحزاب وما إن يتغير الوزير حتى يتغير معه ولاء الموظفين الملوّنين لينتقلوا من تبعية “زيد” إلى تبعية “عمر” ويضيع الوطن بين تناحر الولاءات وتُفرغ الوظيفة العامة من مضمونها النزيه والوطني.
الموقف القانوني من انتماء الموظف العام للأحزاب
من حيث المبادئ تنقسم الدول في هذا الموضوع إلى ثلاث مدارس …
١ .دول تفرض الانتماء الحزبي .. حيث لا مجال إلا لولاء الموظف للحزب الحاكم.
٢ .دول تحظر الانتماء مطلقاً .. لأنها ترى الموظف العام جزءاً من الجهاز الإداري مهمته تنفيذ سياسة الدولة لا أجندة الأحزاب.
٣ .دول وسطية .. تتيح الانتماء لكن بضوابط مشددة تمنع تضارب المصالح.
نماذج كثيرة في الكويت وقطر والإمارات ولبنان وليبيا توضح أن المنع المطلق للانتماء الحزبي هو الضمانة لحماية المؤسسة من التسييس، ولمنع استغلال المنصب لمكاسب حزبية.
الموقف العراقي .
عند العودة إلى الدستور العراقي لسنة 2005 نجد أن ..
• المادة (20) منحت المواطنين حق المشاركة في الحياة السياسية.
• المادة (39) كفلت حرية تأسيس أو الانضمام إلى الأحزاب.
أما قانون الأحزاب السياسية رقم 36 لسنة 2015 فقد نص في مادته الرابعة على حق كل مواطن في الانتماء لحزب لكنه استثنى فئات محددة (المادة 9 فقرة خامساً) مثل ..
• القضاة وأعضاء السلطة القضائية.
• أعضاء هيئة النزاهة.
• موظفي المفوضية العليا للانتخابات وحقوق الإنسان.
• الجيش والأجهزة الأمنية والاستخبارية.
إذن الموظف العام العادي لم يُمنع قانوناً من الانتماء رغم أن المنع كان يجب أن يشمله أيضاً حمايةً للمرفق العام من التسييس.
الإشكالية العراقية …
القانون العراقي ــ على عكس بعض الدول التي تحظر على الموظفين الانتماء للأحزاب السياسية بشكل صارم والنتيجة الطبيعية لهذا الفراغ التشريعي…
• أصبحت الوظائف العليا والوسطى موزعة وفق المحاصصة الحزبية لا الكفاءة.
• استُبدل معيار النزاهة والكفاءة بمعيار الولاء والارتباط السياسي.
• دخل الفساد من أوسع أبوابه فتقاسمت الأحزاب الوزارات كما تُقسم الغنائم وضاع الشعب بين شعارات حزبية خاوية.
الموظف الذي يفترض أن يكون خادماً للمرفق العام تحوّل إلى جندي حزبي يدين بالولاء للحزب قبل الدولة وينفذ أجندة سياسية قبل أن يؤدي واجبه الوطني.
بين النص والتطبيق …
الدستور العراقي (المادتان 20 و39) كفل حق المواطنين في المشاركة السياسية والانتماء للأحزاب وهو حق ديمقراطي مشروع لكن المعضلة تكمن في غياب التوازن بين هذا الحق وبين واجب الموظف في الحياد الوظيفي فالانتماء الحزبي لموظف في دائرة خدمية يخلق تضاربًا واضحًا بين مصلحة الشعب ومصلحة الحزب وهذا ما رأيناه واقعًا في السنوات الماضية حيث تحولت الوزارات إلى حصص حزبية والإدارة إلى غنيمة سياسية.
ما العمل؟
لوقف هذا النزيف لا بد من…
١ .مراجعة الدستور والقوانين النافذة وتعديلها بما يمنع الموظف العام من الانتماء الحزبي خلال خدمته.
٢ .فصل السياسة عن الإدارة، بحيث تكون المؤسسات محايدة تُدار بالكفاءة لا بالمحسوبية.
٣ .إعادة الاعتبار للمواطنة فوق أي ولاء آخر ليكون الانتماء الحقيقي للمؤسسة وللوطن.
٤ .ترسيخ ثقافة الخدمة العامة عبر إصلاح التعليم الوظيفي وربط الترقية بالإنجاز والنزاهة .
في النهاية …
العراق اليوم لا يعاني من قلة الموارد ولا من ضعف العقول بل من تغوّل الأحزاب على الدولة فالوزارات لم تعد وزارات وطنية بل إقطاعيات حزبية والموظفون لم يعودوا جنود الدولة بل أدوات سياسية لذلك فإن الإصلاح الحقيقي يبدأ من إعادة بناء العلاقة بين الموظف والدولة على أساس الولاء للمؤسسة لا للحزب وبغير ذلك سيبقى العراق ساحة لصراع الأحزاب وسيظل الشعب الخاسر الأكبر.
وإن جوهر الخدمة العامة هو الحياد والولاء يجب أن يكون للوطن وحده لا للحزب أو الكتلة لذلك فإن الحاجة اليوم ملحة لإعادة النظر في القوانين النافذة وسد الثغرات التي جعلت من الوظيفة العامة بابًا للتسييس والمحاصصة.
فالوطن لا يُبنى بالولاءات الضيقة بل بالكفاءات النزيهة التي تعمل تحت راية العراق فقط.
وإلا سيبقى المشهد كما هو وزير يرحل وآخر يأتي، تتغير الألوان لكن تبقى المعاناة ذاتها… ويبقى الشعب الخاسر الأكبر.