منوعة

عوض دوخي.. حين يصبح الصوت ذاكرة وطن بقلم: نصير شمه – العراق

عوض دوخي.. حين يصبح الصوت ذاكرة وطن

بقلم: نصير شمه – العراق

 

رواية طالب الرفاعي «دوخي.. تقاسيم الصبا» ليست مجرّد سيرة لفنان رحل، بل من خلالها نستعيد الكويت القديمة ببحرها وبيوتها؛ نافذة على زمنٍ بكامله وأصواته، نرى فيها كيف يتشكّل المطرب ابنًا لبيئته، محمولًا بذاكرة جماعة ووجع وطن وروح بحر.

 

النهمة البحرية: لم يكن البحر في الرواية مجرّد مكان، بل بطلٌ أصيل. الغناء الذي يرافق الغواصين في رحلاتهم يحضر كإيقاع جماعي يشدّ الأيدي، يخفف الغربة ويواجه المجهول. من هنا خرج صوت عوض دوخي امتدادًا لصوت أبيه النهّام ولصوت السفينة وهي تشقّ الموج، وكأن الغناء لم يكن ترفًا بل وسيلة للبقاء ودرعًا في وجه الفقد والبحر والموت.

 

تضع الرواية «دوخي» في قلب التحولات: من الكويت الفقيرة ما قبل النفط إلى الكويت المزدهرة بعد الطفرة. هذا الانتقال جعل صوته يتبدّل بدوره، متنقلًا بين النهمة البحرية والأغنية الوطنية والعاطفية. المكان هنا ليس خلفية جامدة بل كائن حي يغيّر ملامح الصوت في كل مقام.

 

أجمل ما فعله الرفاعي أنه جعل الصوت بطلًا موازيًا للشخصية. يظهر (الصبا، الحجاز، البيات) ويتحوّل إلى مرآة لروح دوخي اختيار مقام الصبا عنوانًا للرواية إشارة ذكية؛ لأنه مقام الحزن النبيل والحنين. هكذا تتحوّل الرواية إلى مرافعة موسيقية عن الإنسان الذي يفتش عما يفقده؛ عن الذاكرة، وعن الصوت كوسيلة للبقاء بعد أن يهزم الجسد.

 

يبتكر الكاتب شخصية «الصاحب» أو «القرين» الذي يرافق دوخي منذ ولادته ويظهر في لحظات الضعف والفقد. بهذا البعد تنتقل الرواية من السيرة الفنية إلى فضاء فلسفي–صوفي: كل فنان مزدوج، له صوت ظاهر يطرب الناس وصوت باطن يناجي ذاته والكون.

 

الإطار الروائي يقوم على ليلة ديسمبر 1979، ليلة مرضه الأخير. الريح العاصفة في الخارج ترمز للموت، بينما في داخل الغرفة صوت القرآن والأهل. هذا التوتر بين الخارج والداخل جعل الرواية كلها تقاسيم على لحن واحد: لحن الوجود بين الحياة والغياب.

 

وطوال قراءتي للرواية كنت أسمع في الصدى بدر شاكر السيّاب دون أن يأتي ذكره؛ ربما لكونهما يتقاسمان وجع الخليج آنذاك. الرواية ليست شهادة لفنان فحسب، بل تسجيل لِذاكرة جماعية. الكويت التي نراها عبر حياة دوخي هي الكويت التي انتقلت من البحر إلى النفط، من الفقر إلى الازدهار، من الصوت الفردي إلى هوية جماعية. ومن هنا تأتي قيمتها الثقافية: إنها تعيد الاعتبار للفن كعنصر من عناصر تكوين الأمة.

 

وأنا أطوي صفحات «دوخي.. تقاسيم الصبا» شعرت أنني لا أقرأ عن فنان رحل، بل أجلس في حضرة صوت ما زال يتردد في فضاء الروح. الرواية لم تقدّم لي دوخي مطربًا وحسب، بل طفلًا عاش اليتم، وبحّارًا قاوم الموج وإنسانًا ظل يخشى الموت ويقاومه بالصوت؛ كفنان عاش معنى الفقد، وموسيقي يعرف أن النغمة لا تعيش وحدها بل تستمد روحها من المكان والزمان والوجوه.

 

وجدت في هذه الرواية مرآة لصوتي الداخلي. البحر الذي شكّلها يذكّرني بأن الموسيقى في جوهرها صرخة في وجه الصمت، وأن الصوت حين يخرج من وجعٍ صادق يصبح ذاكرة أمة.

 

إن أجمل ما تركته فيّ الرواية هو الإحساس بأن الفن لا ينتهي بموت صاحبه؛ فالصوت الذي يُغنّى بصدق، واللحن الذي يُسكب من قلب عاشق، يظلان يطوفان في الذاكرة الجماعية، يضيئان عتمة الأيام، ويذكّرانا بأن الإنسان يُخلّد حين يُعطي صوته للحياة.

 

سبتمبر 2

مقالات ذات صلة

آخر الأخبار