مصباح منير).قصيدة الرعب النبيل والضوء المُضطهد قراءة في شعر:(مصطفى الحاج حسين). بقلم:(ضياء الدّين قنديل)

(مصباح منير).قصيدة الرعب النبيل والضوء المُضطهد قراءة في شعر:(مصطفى الحاج حسين). بقلم:(ضياء الدّين قنديل)
في قصيدة “مصباح” للشاعر السوري مصطفى الحاج حسين، نجد أنفسنا أمام نصٍّ شعري ينهض من الرماد السياسي والوجداني، كاشفًا حالة اختناق وجودي وفكري في مواجهة القمع، ولكن بلغة رمزية مشحونة بحساسية شاعرٍ يرى في النور مقاومة، وفي الشاعر المُعتقَل “مصباح” رمزًا لعذابات جيلٍ كامل.
يتشكّل النص في نَفَس شعري واحد يمتد كصرخة حارقة، بلا انقطاعاتٍ مريحة، وبإيقاع داخلي يولّده التكرار (مصباح، ما خنتك، آهٍ…) والتكثيف والتهكم، ليخلق جوًّا من الضغط الدرامي المستمر. القصيدة تنتمي بوضوح إلى شعر المقاومة، لكنها تنحاز للجانب الإنساني والوجودي أكثر من المباشر السياسي.
“مصباح” ليس مجرد شخص، بل يتحول في النص إلى فكرة، إلى رمز للنقاء والضوء في زمن الخوف. تغدو زنزانته أكثر رحابة من الواقع، بينما يبدو الخارجُ مغلقًا، مختنقًا، “نحن نهمس.. وأنت تغني”، في انقلاب تام للوظائف: السجين حرّ، والحرّ مسجون في صمته.
الرغيف، العصفور، الورد، وحتى الدم، كلها تسأل عن مصباح. هذا التوسيع الرمزي يضخم من دلالة الغائب، ويجعله في منزلة الشاهد والشهيد في آنٍ.
يستحق هذا النص أن يُدرّس ويُناقش في سياق شعر السجون والمنافي، ويقف إلى جانب تجارب شعرية مثل محمود درويش، سميح القاسم، وأحمد فؤاد نجم، مع احتفاظه بفرادته السوريّة والوجدانية.
النص يحفر عميقًا في الوجدان الجمعي لشعب مضطهد، لكنه لا يقع في النواح أو الشكوى، بل يكتب من موقع المندهش والناقم بصمت. “تقتل الكلمات شاعرها”، “الدم جاسوس”، “قناديل المنازل تكتب تقارير”… كلها صور تقلب العالم رأسًا على عقب، وتُنتج إحساسًا بالفجيعة العبثية.
الشاعر يبتعد عن المباشرة، ويستخدم لغةً مشحونةً بالاستعارات الحسية والحركية:
– “يحفرني صمتي”، “يبصقني موتي”، “النبض يقاس”، “الماضي يذكرني”، وكلها تعبيرات تحوّل المفاهيم إلى كائنات حيّة تتنفس وتقسو وتُدين.
اللغة هنا مُتوتّرة، ملغومة، مُتحفّزة،لكنها لا تفقد شعريتها أو انسجامها، بل تؤسس لبلاغة القهر، ولغنائية مكسورة.
التصعيد في النص يبدأ من المفرد، ثم يتوسع إلى الجماعة (“نحن”)، ثم إلى العالم بأسره، حتى تسأل الكائنات عن مصباح. هذا التدرج يحوّل التجربة الفردية إلى مأساة إنسانية عامة، ما يمنح النص طابعًا شموليًا ومكانيًا مفتوحًا.
في نهاية النص، ينقلب السؤال: هل نستحق التضحية؟ سؤال يشكّل ذروة المأساة الأخلاقية. الضحية تضيء، والجلادون عميان. و”مصباح” يمضي مضيئًا، فيما الآخرون يُطفئون أنفسهم بالصمت والتخاذل.
قصيدة “مصباح” واحدة من النصوص الشعرية النادرة التي تجمع بين الألم السياسي، والعمق الوجداني، والرؤية الجمالية. إنها ليست فقط صرخة ضد القمع، بل مرآة للإنسان في انكساره، وتأريخ شعري لحالة عربية ممتدة.
الزمان والمكان كوشمٍ في الجرح:
وضع “حلب – 1984” في ختام النص يحوّله من قصيدة رمزية إلى شهادة تاريخية. عام 1984 في سوريا كان عامًا مشبعًا بالخوف والمراقبة والانقلابات الصامتة، مما يعطي للقصيدة بعدًا توثيقيًا لما لا يُقال.
“مصباح” ليست مجرد قصيدة رثائية، بل فعل مقاومة شعري، ضد
الصمت الجمعي،والخذلان اليومي. هي تذكير بأن الضوء، حين يُشعل في الظلام، لا يُرى فقط، بل يُحاسب الجميع على ما فعلوه بعيونه.*
ضياء الدين قنديل.
** (( مِصباح منير ))..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
يَحفِرُني صمتيَ المُعشِّشُ في رئتَيَّ
يَحرِقُني صوتيَ المُيَبَّسَ في حَنجَرَتي
يَبصُقُني موتيَ المُعَلَّبَ في القلبِ.
مِصباحُ..
ما سَلَيتُكَ
هو الفَزَعُ يَفتَرِشُ الطُّرُقاتِ
هو السّاطورُ يَهوي
فوقَ عَصَبِ الحُلمِ.
مِصباحُ..
ما خُنتُكَ
هو الظِّلُّ يُرْقِبُني
هو التّوقيتُ بلا وقتٍ
والنّبضُ يُقاسُ
عندما يَحمِلُ المساءُ
نَعْشَ الشَّمسِ ويمشي.
مِصباحُ..
قد تكونُ زِنزانتُكَ
أطوَلَ اتّساعًا مِنَ البحرِ
أعمقَ مِن أُفُقِ الحُلمِ
قيَّدوا منكَ الجَسَدَ
واحتَجَزونا في نَظّارةِ الرُّعبِ.
أنتَ تُغَنِّي.. ونحنُ نَهمِسُ
أنتَ تُحدِّقُ.. ونحنُ نَتَوَجَّسُ
فأيُّ المقاصل أفظَعُ
عندما المَخنوقُ يُغنّي
والطّليقُ يَخرسُ؟!
مِصباحُ..
ماضونَ نحنُ باليأسِ
مُلتفّونَ حولَ النَّزفِ
طوابيرُ مِنَّا تنتظرُ الموتَ
نَتزاحَمُ على المقابرِ
ومَكاتِبُ دَفْنِ الموتى
لا تستقبِلُ زبائنَها
دونَ (لا حُكمَ عليه).
آهِ مِصباحُ..
انطَفَأَ الضَّوءُ في أوردَتِنا
جَفَّ الأملُ
تَقتُلُ الكلماتُ شَاعِرَها
وقَناديلُ المَنازِلِ تَكتُبُ تَقاريرَ
والدَّمُ في عُروقِنا
جاسوسٌ.
آهِ مِصباحُ..
يَسأَلُني عنكَ الرّغيفُ
يَتَفَقَّدُكَ العُصفورُ
ويَستفسرُ عن حالَتِكَ الوَردُ
فبِماذا أُجيبُ؟!
مِصباحُ..
إنّا تَفَرَّقْنا
وأنا خَرِستُ.
يَذكُرُني الماضي بما قُلنا
والحاضرُ أفعى بفَمِها الأرضُ.
مِصباحُ..
أشعلتَ ضوءَكَ في أحداقِنا
ولم نَرَكَ
فهل نَستَحقُّ مِنكَ
تلكَ التّضحيةَ؟!*
مصطفى الحاج حسين.
حلب – 1984م