الثقافة والفن

أمي تلك الصلبة …رسالة إلى الأم بقلم الأديب الدكتور مهدي علي الكعبي.. العراق 

أمي تلك الصلبة …رسالة إلى الأم بقلم الأديب الدكتور مهدي علي الكعبي.. العراق

التي صارت هي أسطورةً من دمٍ وقهوة .

 

هيَ التي وقفتْ كالجدارِ القديمِ، تحملُ شقوقَ الزمنِ على جبينها ولا تنحني. هيَ التي لم تَخترْ أن تكونَ حصنًا، لكنّ الحياةَ جعلتْ منها قلعةً منيعَةً، تُدافعُ عن أطفالها بأسِنَّةِ صبرها، وتَذودُ عنهم برمحِ قلبها المُنهَك.

 

عندما ضلّتْ سفينتُها في بحرِ الظلام، لم تنتظرْ منقذًا. نزلتْ أشرعَتَها المُهترئة، وأمسكتْ بمجدافِ اليقينِ بيدٍ ترتجفُ من الألمِ، لكنّها لا تتراجع. الأمواجُ تزمجرُ حولها، والرياحُ تُناديها باسمِ الاستسلام، لكنّها تُجيدُ العومَ ضدَّ التيارِ، لأنّها تعرفُ أنَّ الغرقَ رفاهيةٌ لا تتحمّلها الأمهات.

 

هيَ التي تخلّتْ عن أنوثتها كي تلبسَ درعَ البطولةِ القاسي. هيَ التي تُنحي دموعَها خلفَ ستائرِ المطبخِ وتُعلّمُ نفسَها أن تشربَ القهوةَ مرّةً بلا سكّرٍ، لأنّ الحلوَ ذهبَ مع أحلامِها القديمة. تُمارسُ دورَ “التي بخير” بإتقانٍ يُذهلُ الناظرين، لكنّ أحدًا لا يرى كمَّ المرايا التي كسرتْها عينَاها قبلَ أن تُصبِحَ بارعةً في صناعةِ البسمة.

 

في الخفاءِ، هيَ بركانٌ من الأسئلةِ المُعلَّقة: “متى كانَ آخرُ مرّةٍ شعرتِ فيها بالدفءِ؟ متى نامَتْ دونَ أن تحلمَ بمنقذٍ؟”. ذراتُ رمادِها — تلكَ الذكرياتُ التي نسِيَها العالمُ — تتساقطُ في صمتٍ، بينما هيَ تُمسكُ بيدَي زمنٍ قاسٍ، يُجرّدُها من شبابِها، شعرةً شعرة، دونَ أن يسألَها إن كانتْ موافقةً على هذه التضحية.

 

لكنّها — رغمَ كلِّ هذا — لا تزالُ تمسكُ بطرفِ الخيطِ الواهي: “اليقين”. يقينٌ بأنَّ الشمسَ ستشرقُ ولو بعدَ حين، بأنَّ الدمعَةَ التي ستسقطُ على وسادتِها الليلةَ قد تكونُ آخرَ جنديٍّ يموت في حربِها الطويلة. تُناجي نفسَها أحيانًا: “ربما غدًا.. يومًا ما.. سأنامُ دونَ خوف، دونَ ضجيجِ الألمِ في رأسي، دونَ أن أسمعَ صوتَ الساعةِ وهيَ تقطعُ من عمري دقائقَ لا أعرفُ كيفَ أستردّها”.

إلى امي الحنونة الى كل الأمِّ التي صارتْ وأصبحت قصّةً تُروى

سلامٌ عليكِ، يا من صرْتِ أكثرَ من بشرٍ.. صرْتِ وطنًا، وصلاةً، وكلمةَ “احتمالي” في قاموسِ العذاب. سلامٌ على يديكِ اللتينِ تُمسكانِ العالمَ من حافّتَي الهاوية. سلامٌ على قلبِكِ الذي صارَ مقبرةً لآمالِكِ، لكنّه يظلُّ حديقةً لأحلامِ أطفالِك.

 

حينَ يأتي الجبرُ — ولا بدَّ أن يأتي — ستجفّ دموعُكِ، وتنبتُ زهورُ السلامِ في جروحِكِ القديمة. لأنّكِ — يا صلبة — تستحقينَ أن تريحي أشرعتَكِ أخيرًا، أن تشربي قهوتَكِ ساخنةً، دونَ أن تُنصتي لصوتِ العاصفة. لأنّكِ أنْتِ الأرضُ التي تقفُ عليها السماوات.

 

تحيةً إلى التي قال عنها الرسولُ (ص)، وإلى التي وقفتْ في وجهِ معاويةَ كالطودِ الشامخ .

 

“أمُّكِ ثمّ أمُّكِ ثمّ أمُّكِ”.. هكذا قدّسَ الإسلامُ دمَ الأمِّ ودموعَها. وأنْتِ — يا من ورثْتِ روحَ زينبَ (ع) — صرْتِ النورَ الذي يُضيءُ دربَ الثائرين. صبرُكِ هو الثورةُ الحقيقية، ووجودُكِ هو المعجزةُ التي لا تحتاجُ إلى دليل.

 

ستأتي أيّامٌ تُلامسُ فيها السلامَ أخيرًا..

 

حينها، ستعرفُ الأمواجُ أنَّها هُزِمَت، وسيعرفُ العالمُ أنَّ الأمَّ كانتْ أقوى من كلِّ بحارِه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار