المقالات

ضوءٌ في السماء… وعقارب في المختبر بقلم ماجد خليل الشجيري 

بقلم ماجد خليل الشجيري 

(بقلم الفنان التشكيلي والكاتب التشكيلي ماجد الشجيري / العراق بابل الهاشمية

*************************

ضوءٌ في السماء… وعقارب في المختبر

بقلم ماجد خليل الشجيري

في مدينة تنام بين البساتين وتستيقظ على صفير القطار، كان البيت الطيني العتيق يختزل كل ملامح الحنين. له ملمسٌ عضوي، ودفء لا يمنحه إلا الطين حين يجف بعد مطر. بيتٌ تزيّنه الحديقة الغنّاء، وتتسلّق جدرانه ذكريات لا تشيخ.

 

من سطحه، يمتدّ البصر نحو سكة الحديد القديمة، حيث تمر العربات الحديدية التي كانت، رغم صدأها، تُبهج الصغار.

خلف السكة، منخفضٌ صغير تجمع فيه المطر، فصار كبحيرة هادئة تعكس زرقة السماء، تحفّها بساتين وأراضٍ زراعية تمتد حتى الأفق. وهناك، في طرف المنظر، تقف منشأة بريطانية مهجورة تُدعى “الكم”، تحاصرها أشجار التين الشوكي( الصبير) التي لم تعد تهاب أحدًا.

 

وسط المدينة الصغيرة، سوق ومقهى قديمان، يتجمّع فيهما الشباب كل مساء لمتابعة البرامج بالأبيض والأسود. لم يكن أحد يملك شيئًا حقًا، لكن كل شيء كان ملكًا للجميع. المرح في الطرقات، الركض بين الحقول، والضحك الذي يتسلل من نافذة إلى أخرى.

 

في أعقاب مطرٍ خفيف، انطلق الأطفال صوب الحقل المجاور لجمع الفطر. كانت الأرض كريمة، تنبت الفطر كأنها تحتفل بقدومهم. لكن المفاجأة كانت صبارًا عملاقًا لم يروه من قبل، مكتنزًا بثماره كأنه يُغريهم ويعاقبهم في الوقت ذاته. راحوا يقطفون الثمار بلهفة، يصرخون من ألم الأشواك ويضحكون في آن.

 

في البيت، كانت كل نهاية أسبوع موعدًا للدفء: الجيران يجتمعون للاستحمام، الشاي يغلي، والنار تشتعل لتسخين الماء، والصبية يمرحون حتى وقتٍ متأخر، بعضهم يذهب للمقهى، وبعضهم يتسكع في الأزقة، حيث تختلط رائحة المطر بفضلات الحيوانات.

 

في إحدى الليالي، بينما يعودون من المقهى، أوقفهم ظلّ غامض يتوسد الطريق. لم تكن الأنوار كافية لكشفه، ارتعبوا، تسمروا في أماكنهم. لكن بعد لحظات، ظهر الحمار وصغيره نائمين في منتصف الزقاق، يلوذان بالهدوء.

 

أما اختراعاتهم، فكانت لا تنتهي. ذات مرة، صنعوا عجلة من أغطية القناني وبكرات الخياطة. وفي مرةٍ أخرى، قرروا صنع طائرة ورقية ملونة، وثبّتوا على ظهرها شمعة صغيرة. عند الغروب، صعدوا إلى مكان مرتفع خلف السكة، وأطلقوا الطائرة. ارتفعت بهدوء، تضوّأ السماء بضوءٍ خافت، فتجمهر أهل القرية يحدّقون في “الجسم الطائر المجهول”. لكن الريح تغيّرت فجأة، واشتعلت الطائرة، فهوت كرة لهب في الحقول. ضجّت القرية بالضحك، وتحوّل المشهد إلى حديث الناس لأيام.

 

في المدرسة، أحبّوا العلوم كما أحبّوا الرسم. كانت مادة العلوم ممتعة، خصوصًا حين شرح المعلم كيف يُحنّط الحشرات. طلب منهم إحضار حشرات غير الفراشات. لم يكن الطلب تحديًا، بل دعوة لمغامرة جديدة.

 

انطلقوا نحو الحقول، يلعبون، يلهون، ويتسابقون مع الهواء. وبينما جلس أحدهم ليستريح على محراث قديم، رفع صخرة فإذا بعقارب سوداء تزحف. هرع رفيقه وأحضر قارورة زجاجية، وجمعوا العقارب بحذر، وأحكموا غطاءها.

 

في اليوم التالي، دخلوا المدرسة بزهو المنتصرين، ووضعوا القارورة في مختبر العلوم دون أن يذكروا محتواها. وعند بدء الحصة، وبينما يتزاحم التلاميذ حول أدوات التحنيط، اصطدم أحدهم بالطاولة، فسقطت القارورة، وتحطمت. فجأة، انتشرت العقارب في أرجاء المختبر، فصرخ التلاميذ وهربوا، وبقي المعلم مذهولًا يحاول السيطرة على الموقف.

 

هكذا كانت طفولتهم: ضوء في السماء، شوكٌ في الأيدي، وعقارب في المختبر… لكنها أيضًا كانت زمنًا لا يُنسى، حيث كان الحلم ممكنًا، واللعب شغفًا، والخوف نكتة تُروى بعد الضحك.

 

مقالات ذات صلة

آخر الأخبار