وليمة المعنى: في حضور الفلسفة واحتضار اليقين: بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

وليمة المعنى: في حضور الفلسفة واحتضار اليقين:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
ليس الفكر وليد السؤال فحسب، بل هو الجوع المستمر إلى المعنى، والرغبة في تذوّق المجهول على مائدة الوجود. وحين يشتدّ هذا الجوع، تجلس الفلسفة إلى مائدتها الكبرى — لا لتأكل، بل لتتأمل ما يؤكل منها. تلك الوليمة التي لا تُقدَّم فيها الأطعمة، بل تُقدَّم فيها الحقائق لتُقطع بسكاكين النقد، وتُقدَّم فيها الأوهام على هيئة أطباقٍ من الرغبة.
هكذا تغدو الفلسفة وليمة المعنى، حيث تتواجه الروح مع ذاتها في حوارٍ داخليٍّ لا ينتهي، وحيث يتبدّد اليقين في حرارة السؤال.
_ النص الفلسفي:
الفلسفة ليست علماً يصف العالم، بل تجربة وجودية تسعى لتبرير حضور الإنسان في العالم. إنّها، كما وصفها نيتشه، “فنّ تحويل المعاناة إلى قوّة”، و“جرأة النظر في الهاوية دون أن يُغمض الفكر عينيه”. فهي ليست بحثًا عن الحقائق بقدر ما هي مواجهة مع الذات، مع الهاجس والعدم والمصير.
عندما قال نيتشه بـ”العود الأبدي”، لم يكن يتحدث عن دورة زمنية جامدة، بل عن إرادة الحياة في مواجهة العدم؛ عن الإنسان الذي ينهض من رماد نفسه كل مرة ليؤكد الوجود من جديد. أما هايدغر فكان يرى في الفلسفة “بيت الوجود”، المكان الذي يسكن فيه المعنى، وينكشف فيه الكائن للكينونة ذاتها، لا بوصفها مفهوماً مجرداً، بل تجربة معيشة في حضور الزمن والموت.
وفي المقابل، قدّم لوي لافيل رؤية ميتافيزيقية عميقة تُعيد للإنسان قيمته بوصفه كائناً قادراً على “تحويل المعاناة إلى ارتقاء”، لأن القيمة ليست في ما نملك، بل في ما نصير إليه عبر فعل الوعي والتحوّل الداخلي.
تلتقي هذه الرؤى الثلاث في قلب واحد:
أنّ الفلسفة ولادة دائمة من رماد اليقين.
فكلّ يقينٍ يُطرح على المائدة لا بد أن يُسلخ منه قشرته ليُستخلص لبّه. وكلّ فكرة تُقدَّم كاملة، إن لم تُقطّع بأسئلة جديدة، ماتت في فم المتلقي قبل أن تهضمها الروح.
إنّ الفيلسوف لا يبحث عن الخلاص في المعارف الجاهزة، بل يتغذّى من مرارة السؤال، ويشرب من كأس الشكّ حتى الثمالة، لأن الفلسفة هي المأدبة التي يُؤكل فيها العدم ليُستولد منه المعنى. إنها لحظة مواجهة بين الإنسان وظله، بين الأنا والوجود، بين الحضور والغياب.
ولهذا كانت الفلسفة، في عمقها، وليمة المعنى واحتضار اليقين.
ففي كل ولادةٍ فكرية، هناك يقين يموت. وفي كل فكرةٍ تُشرق، هناك أخرى تُطوى في العتمة. الفلسفة لا تُنهي أسئلة العالم، بل تفتحها كما تُفتح جراح النور في جسد العتمة.
_خاتمة:
ليست الفلسفة طريقاً إلى الطمأنينة، بل عبورٌ شاق نحو الوعي.
من يجلس إلى مائدتها، يعلم أنّه لن يشبع، لأن الجوع هنا ليس إلى الخبز، بل إلى الحقيقة، والحقيقة — كما قال كامو — “ليست ما نكتشفه، بل ما نتحمّل معرفته”.
وهكذا، تبقى الفلسفة وليمة لا تنتهي، يُدعى إليها من يملك شجاعة الحضور لا شهوة الامتلاك، ومن يؤمن أنّ الفكر لا يُؤكل إلا نيّئاً، لأن النار التي تُنضجه هي ذاتها التي تحرق من يقترب منها أكثر من اللازم.

