الطقس والكتابة: الشعر بوصفه عبوراً وجوديّاً بين اللغة والدهشة : بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

الطقس والكتابة: الشعر بوصفه عبوراً وجوديّاً بين اللغة والدهشة : بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض وهو يسعى إلى تحويل فوضاه الداخلية إلى شكلٍ قابلٍ للفهم، وإلى لغةٍ تُسكّن عاصفة المعنى في داخله. ومن رحم هذا السعي وُلدت الكتابة، لا بوصفها مجرّد أداة للتعبير، بل كفعلٍ طقسيّ يربط الكائن بما هو أعمق من ذاته، بما يشبه الصلاة أو الكشف أو التجلّي. فالكاتب الحقيقي لا يكتب ليقول، بل ليعبُر — من صمته إلى لغته، من ظلاله إلى نوره.
ولعلّ ما يميز الإبداع الأصيل عن النظم البارد هو الطقس الذي يسبق الكلمة، تلك اللحظة التي يتحوّل فيها الكاتب إلى كائنٍ شفافٍ أمام المعنى، حيث تلتقي الروح بالعبارة في لحظة من التهيّؤ والإنصات العميق. إنّ الطقوس في هذا السياق ليست مظاهر شكلية أو عاداتٍ نفسية، بل هي حالة وجودية تُعيد ترتيب العلاقة بين الذات واللغة، بين الداخل والعالم.
في ضوء ذلك، تأتي هذه الدراسة لتتأمل الطقس والكتابة بوصفهما وجهين لجوهرٍ واحد، وتسعى للكشف عن دور الطقس في رفع سوية النصّ الشعري، من خلال تتبّع رؤى الشعراء والنقّاد والفلاسفة الذين جعلوا من فعل الكتابة عبورًا نحو المعنى، لا مجرّد إنتاجٍ للقول. فهي محاولة لإعادة الشعر إلى مقامه الأول: مقام الدهشة، والنصّ إلى أصله الطقسيّ، حيث يولد الحرف من تواطؤ الروح مع الصمت.
1. الكتابة كطقسٍ لا كصنعة:
منذ أن خطّ الإنسان أول رموزه على جدران الكهوف، لم تكن الكتابة فعلاً معرفيًّا بقدر ما كانت طقسًا من طقوس الوجود. فهي ليست مجرّد إنتاج لغوي، بل انبثاق حالةٍ من الداخل، عبورٌ بين الصمت والكلمة، بين الماوراء والماثل. لذلك، حين نتحدث عن طقوس الكتابة، فإننا لا نقصد ما يحيط بالكاتب من أدواتٍ أو عاداتٍ شكلية، بل ذلك الفضاء الداخلي الذي يهيّئ للكلمة شروطها الوجودية.
فالكتابة، كما يقول موريس بلانشو، هي “تجربة العزلة القصوى”، حيث لا تعود اللغة وسيلة للتواصل بل أداة لاكتشاف الذات في أقصى توتّرها. هنا يتحوّل الطقس إلى ضربٍ من التهيئة الروحية، يفتح للكاتب بوّابة الدخول إلى نصّه، تمامًا كما يدخل الكاهن إلى معبده متطهّرًا من ضجيج العالم.
2. الطقس كشرط للإلهام لا كعادةٍ ساذجة:
الطقوس الحقيقية ليست تلك التي تُحاكي الشكل، بل التي تُعيد تنظيم الحواس والوعي والزمن. فالشاعر بابلو نيرودا كان يشعل شمعة قبل الكتابة، لا لتجميل الجوّ بل “ليتذكّر أنه يكتب على حافة النار”. وريلكه في «مراثي دوينو» لم يكتب إلا حين “تجسّد الوحي في الريح”، كما وصف، كأن القصيدة لا تولد إلا حين يصير الكون نفسه في حالة طقس شعري.
يقول باشلار في “جماليات المكان”: “إن البيت، مثل القصيدة، لا يُبنى إلا في حالة من الانصهار الحلميّ”. فالفعل الإبداعي يحتاج إلى درجةٍ من الصمت الداخلي تُعيد للكلمة قدسيتها الأولى، وتجعل الشاعر يستمع إلى “اللغة قبل أن تُقال”.
حتى أدونيس يرى أن “الكتابة صلاة بلا دين”، أي أنها شكل من التطهّر الوجودي، حيث تتحوّل القصيدة إلى معبد، والحبر إلى طقس عبور بين المرئي والمستور.
3. بين الوعي واللاوعي: الطقس كجسرٍ للانخطاف.
من منظورٍ نفسي، يرى كارل غوستاف يونغ أن الطقس في الفنّ هو “وسيلة لاستدعاء اللاوعي الجمعي”؛ أي إنه يفتح قنوات الاتصال مع المخزون الرمزي للإنسانية. فالشاعر، حين يتهيّأ للكتابة، لا يخلق نصًّا من العدم، بل يُنصت إلى “الأصوات القديمة” الكامنة في لاوعيه، وهي ما سمّاه يونغ “الأنماط الأصلية”.
من هنا، تصبح الطقوس كأنها مفتاحٌ لبوابة الخيال، لا بمعناه الوهمي، بل بوصفه طاقة كشف، تُمكّن الكاتب من تجاوز الظاهر نحو الجوهر. فكما يحتاج الراهب إلى إنشادٍ متواتر ليستحضر حضوره، يحتاج الكاتب إلى طقسٍ خاصّ ليستحضر تلك الطاقة الخفيّة بين الروح والكلمة.
4. الطقس في اللغة: نحو موسيقى داخلية للنص.
في اللغة العربية، يدرك الشعراء الكبار هذا الارتباط الغامض بين الطقس والنصّ. فـالمتنبي لم يكن يكتب إلا بعد طول تأمّلٍ وصمت، لأنه، كما قال، “أفرّغ نفسي من العالم لأملأها بالعالم”. وأبو حيّان التوحيدي يرى أن “الكلمة الصادقة لا تُولد إلا من رحم الوحدة”، وهي إشارة واضحة إلى الطقس بوصفه تجربة صفاء قبل انبثاق القول.
أما نزار قباني فكان يقول: “القصيدة ليست قرارًا، بل حالة”. أي أن الكتابة ليست إنتاجًا عقلانيًّا باردًا، بل انخراط وجداني تامّ في موجةٍ من التجلّي، لا تُدرَك إلّا من خلال الاستعداد الداخلي، أي من خلال طقسٍ يحوّل الكاتب إلى أداةٍ لتجلي اللغة.
النقاد الحديثون، كـرولان بارت وميشال فوكو، تحدّثوا عن “موت المؤلف” لكن بمعنى رمزي: الكاتب لا يُبدع إلا حين يتلاشى ذاته الأنانية في طقس الكتابة، فيصير النصّ هو الحيّ الوحيد، كما لو أن الكتابة تستعمل الكاتب لِتقول ما لم يُقل بعد.
5. الطقس بوصفه تربية للدهشة:
في زمن السرعة الرقمية، تكاد الكتابة تفقد بُعدها الطقسي. لكن الشعر، في جوهره، لا يولد من السرعة بل من بطءٍ مهيب، من لحظة إنصاتٍ للوجود. الطقس، إذن، ليس ترفًا إبداعيًّا، بل أخلاق جمالية تُعيدنا إلى فكرة الكتابة كفعل تطهّر وتجلٍّ.
إن الطقس يعلّم الكاتب أن لا يكتب ليتحدّث، بل ليُنصت. أن يكتب لا ليعبّر، بل ليكتشف. أن يحوّل النصّ إلى مرآةٍ للدهشة، حيث تتحوّل اللغة من وسيلة إلى كيانٍ حيّ ينبض بالسرّ.
خاتمة: الكتابة كعبورٍ مقدّس:
الطقس ليس قيدًا على الكتابة، بل هو منحها شكلَها المقدّس. إنه اللحظة التي تتطهّر فيها اللغة من لغوها، والكاتب من ذاته. وكما يقول إليوت: “الشعر لحظةٌ يصبح فيها الوعي غير واعٍ، والمعلوم مجهولًا، والزمن دائرةً لا بداية لها”.
هكذا، حين ندخل الطقس بصدقٍ وجوعٍ للمعنى، لا نكتب القصيدة — بل القصيدة هي التي تكتبنا.