“الرشوق الجزائري، حوار موسيقي فولكلوري راقص يعيد إحياء التراث اللامادي”
متابعة سمية معاشي. مدير الوكالة فرع الجزائر

تجسيد روح الجماعة والتعبير عن القيم التقليدية للتضامن والمحبة
“الرشوق الجزائري، حوار موسيقي فولكلوري راقص يعيد إحياء التراث اللامادي”
تزخر الجزائر بتراث ثقافي غني، يتنوع بين المادي والمعنوي، ويعتبر فن الرشوق من بين أبرز مظاهره. فهو ليس مجرد عرض موسيقي أو راقص، بل هو تعبير عن هوية شعبية متجذرة في أعماق التاريخ، ومطية للمتعة والنشوة حتى حدود الانتشاء من حيث استطعام الموروث المعنوي المتجسد في الفلكلور بأنواعه. في هذا الريبورتاج، سنقدم نظرة معمقة عن فن الرشوق الجزائري، الذي نشأ في ولاية أدرار، ونستعرض تفاصيله وتطوره وأهميته الثقافية، مع تحليل لمختلف جوانبه الراقية.
الرشوق الجزائري هو مظهر احتفائي، يتضح كنوع من الفنون الشعبية الفلكلورية، عندما يتكون من حلقتين أو مجموعتين متقابلتين تشاركان في حوار موسيقي راقص. يعتمد هذا المظهر على الإيقاع والتصفيق والرقص لحدود النشوة، حيث تبدأ المبادرة من أحد أفراد المجموعة الأولى إما بالتصفيق أو الرقص لخلق الفرجة، وترد عليه المجموعة الثانية بطرق إبداعية مختلفة لصنع لوحات فنية جميلة ومتنوعة، يشكّل التصفيق أساس هذا الفن، حيث يتنوع في قوته وعدد صفقاته لإعطاء إيقاعات متناغمة. كما يتميز الرشوق بتنوع أساليبه واختلاف أنواعه، وأبرزها الطبل، الركبية العامة، طبل النساوين، السكاتية في الطبل وأهليل والعامة حيث انغام موسيقى العود والكمان تتزواج لانتاجها.
تتعدد أسماء الرشوق بحسب الرقصة؛ ففي الحضرة يُدعى “الجذبة”، وفي البارود “التموريس”، بينما يُعرف في رقصة الطبل بـ”الرحيح”، وفي العامة يسمى بالزهو ، يعود أصل فن الرشوق إلى ولاية أدرار ، وهو موروث عبر أجيال طويلة. يستمد جذوره من الفلكلور المحلي، حيث يعكس تاريخ وتقاليد سكان المنطقة، مع مرور الوقت، انتشر الرشوق كمظهر فني ليشمل مناطق أخرى من الجزائر، وأصبح جزءا من التقاليد الشعبية في الأعراس والمناسبات الاجتماعية. إنّ تنوع أساليبه يعكس التنوع الثقافي في الجزائر، مما يثري هذا الفن ويعطيه عمقا إضافيا.
التصفيق يشكّل جوهر فن الرشوق، حيث يعتمد على تنظيم قوة وعدد الصفقات لإنتاج إيقاعات متناغمة. يمكن أن تكون التصفيقات متتابعة أو متسارعة، وقد تصل أحيانا إلى خمس صفقات متتالية. يتحكم في هذه العملية المايسترو، الذي يقف في وسط المجموعة ويوجه الإيقاع بالإشارة فقط، مما يجعل العرض أكثر تجانسا وتناغما. يضفي هذا التنظيم جوا من التفاعل والحيوية على الأداء، مما يجعل الحضور جزءا من التجربة.
الرقص في فن الرشوق يأخذ طابعا مشابها للرقص الإفريقي، حيث يقف مايسترو الرقص ويوجه الحركات بأسلوب يشبه الرقصة التقليدية. يتفاعل الحضور مع هذا العرض، ويشاركون بشكل نشط من خلال التصفيق ومتابعة الإيقاع كما يحدث في سكاتية الطبل. كل مجموعة تبدع في تقديم لوحات راقصة مختلفة، مما يضفي على العرض جوا من الحيوية والإبداع. إنّ تفاعل الجمهور مع الأداء يُعتبر جزءا أساسيا من التجربة، حيث يجلس الحاضرون على الأرض لمتابعة العرض عن كثب ويتجلى ذلك في الحضرة حيث الايقاع الصوتي.
تتوسط أنغام العود والكمان والدربوكة عروضه، مما يضفي جوا من الأصالة والتميز على الأداء، هذه الآلات الموسيقية التقليدية تُستخدم لإضفاء طابع موسيقي مميز على العرض، وتعمل كخلفية موسيقية تدعم التصفيق والرقص. الأوتار والنغمات الموسيقية تُساهم في جعل العرض أكثر تجانسا وتناغما. إن انسجام هذه الآلات مع الأداء البشري يظهر تنوع المهارات الفنية ويعزز من قيمة هذا الفن.
يُمثل الرشوق ذروة الزهو في ختام الرقصات الفلكلورية المتنوعة، رغم أنه ينحدر من ولاية أدرار، إلا أنه انتشر ليشمل جميع أنحاء الجزائر، خاصة في المناطق الغربية والصحراوية. أصبح هذا الفن جزءا لا يتجزأ من تقاليد الأعراس والمناسبات الاجتماعية، حيث يشكّل لوحة فنية تزين تلك اللحظات الخاصة. كما شاركت فرق الرشوق في العديد من المهرجانات الوطنية والدولية، مما أسهم في تعريف العالم بهذا الفن الرائع. إن انتشار الرشوق يظهر كيف يمكن للفنون الشعبية أن تتجاوز الحدود الجغرافية وتجمع بين الناس.
في الآونة الأخيرة، شهد الرشوق اهتماما متزايدا، وتلقى دعما ملحوظا في مختلف المناسبات لإعادة إحيائه ونشره بشكل أوسع. في ظل العولمة التي تهدد الفنون التقليدية، أصبح الحفاظ على هذا الفن ونقله للأجيال القادمة ضرورة ملحة. وتمثل المبادرات المختلفة التي تسعى إلى توثيقه ودراسته علميا خطوة كبيرة نحو ضمان استمراريته ونموه في المستقبل.
برز تزايد في عدد المغنيين والمؤديين الذين يختصون بهذا المجال الموروث، حيث تُقدم كلمات الأغاني أحياناً من فرد واحد، وأحياناً أخرى تكون جماعية بأغاني محافظة متنوعة، كما يكون الغناء متبادلاً بين المجموعتين، مما يضفي تنوعاً إيقاعياً ولحظات تفاعلية مميزة.
بفضل هذه الجهود، أصبح فن الرشوق محط أنظار العديد من المؤسسات الثقافية والفنية، التي تسعى جاهدة لتقديم الدعم المالي والمعنوي للفنانين والمبدعين في هذا المجال. وتعمل هذه المؤسسات على تنظيم فعاليات ومعارض فنية تسلط الضوء على جماليات الفن التقليدي وأهميته الثقافية. كما تسعى إلى نشر الوعي بين الجمهور بأهمية الحفاظ على هذه الفنون التراثية وضرورة توثيقها بطرق علمية حديثة.
هذا الاهتمام المتجدد يساعد على تعزيز الهوية الثقافية والتمسك بالعادات والتقاليد الأصيلة، مما يساهم في خلق توازن بين الحداثة والتراث. إن الحفاظ على فن الرشوق يعتبر مسؤولية مشتركة تتطلب تضافر الجهود من جميع الأطراف المعنية، من فنانين ومؤسسات ثقافية وحكومات، لضمان استمراريته ونقله بشكل يليق بجماله وقيمته التاريخية.
إدراكا لأهميته، تقوم العديد من الجمعيات والمنظمات الثقافية في الجزائر بجهود كبيرة للحفاظ على هذا التراث والتعريف به، من بينها نذكر السعي لإدراجه ضمن قوائم التراث الثقافي، وتنظيم مهرجانات وفعاليات ثقافية تعزز من حضور هذا الفن وتعرف به على نطاق أوسع، كما تعمل هذه الجمعيات على توفير الدعم.
عبد القادر بن جعفري،
متابعة سمية معاشي

