د.خالد إسماعيل دراسة نقدية لقصة:(باب أنطاكيا) (لمصطفى الحاج حسين)

د.خالد إسماعيل دراسة نقدية لقصة:(باب أنطاكيا) (لمصطفى الحاج حسين)
الطموح والهوية والوجع الاجتماعي في قصة عامل البناء المثقف.
(باب أنطاكيا) تروي تجربة (مصطفى)، عامل بناء يُحبّ القراءة والشعر، يُجرب الصراع اليومي على باب أنطاكية ــ حيث العمال ينتظرون فرص عمل شاقة بأجور زهيدة وسط صخب وضغط جسدي ونفسي كبيرين. (مصطفى) يعاني من مظهره الجسدي، من صوته الهزيل، من خجل التنافس، من كرامته التي لا تسمح له أن يتوسّل أو يترك هويته كمثقف. تُصوِّر القصة تناقض الذات بين ما هو مثالي وجداني (القراءة، الشِعر، الكرامة) وبين الواقع القاسي الذي يهمِش الجسد، الصوت، المكانة الاجتماعية. ثم يلتقي بـ “أبو محمود شكشك” الذي يعرف أبا مصطفى، فيقدّم له فرصة عمل، لكنه يعيش لحظة المفاضلة بين كرامة النفس وبين الحاجة، بين الانكسار والعزاء. هناك مشاهد من الألم، من الحسد، من التناقض الداخلي، من الطموح المفقود.
الزمن والمكان: القصة تقع يوميًا في فضاء باب أنطاكية، المعرض العمل، الرصيف، زمن الانتظار، الصباحات التي لا تُثمر عملًا.
البداية: (مصطفى) يستيقظ مفجوعًا ببطالة وضيق أمام منافسة العمال.
التطور: تتابع الانتظار، إحساس الإهمال، أن لا يُبصَر إلا بصوتك الضعيف وقامَتك الصّغيرة.
العقدة: لقاء (أبو محمود)، الذي يُشكّل محطة أمل ولكن موقت ومحدود. إشكالية (مصطفى) بين كرامته ومتطلبات العمل، بين أن يُعامل كعامل بائس أو كمثقف مُحترم.
الذروة: حين يُحمَل الحجر الثقيل، يجتاحه التعب، الألم، الحاجة إلى سيجارة، الحساسيات الجسدية والنفسية تشتدّ. حضور العنصر الطبقي الثقافي ـ تمظهر التفاوت في الجسد، في الصوت، في المظهر، في التقدير.
النهاية: ليست نهاية كاملة، بل مشهديّة تحمل مزيجًا من الألم والتقبل، من الخجل والرغبة في الصمت وكذلك في المطالبة، من الطموح المنكسر لكن الذي ما زال حيًّا، “حتى الآن”.
الصراع الداخلي: بين المثقف والعامل، بين الكرامة والمذلة، بين الحلم والواقع. (مصْطَفَى) ليس مجرد عامل، إنه مثقف يملك أحلامًا ورغبة في الكرامة، لكن الواقع يُخنقه.
الهوية المتشرذمة: ذاته تنقسم؛ لا يريد أن يُنظر إليه كمثقف أو أن يُستهزأ به، لكنه لا يستطيع أن يتخلى عن القراءة والشعر، ما يشكّل ثنائية تأبى التوفيق بسهولة.
الخجل والضوء: الخجل من الجسد، من القامة، من صغر الصوت، من أن يكون “أستاذًا” بين العمال، من أن يُعرض نفسه. الضوء هنا رمز المعرفة، لكنه يُستخدم أيضًا كعائق اجتماعي.
الوجدان المتمرد: رغبة في الصمت لكن أيضًا في أن يُرى، أن يُعرف، أن يكون له وجود ككاتب، ليس فقط كعامل.
العدالة الاقتصادية: القصة تطرح بشكل قوي قضية العدالة في توزيع الفرص، في رؤية أن المَهارة لا تُكفي إذا لم يكن الجسد، المظهر، الصوت، الموقف الاجتماعي مساعدًا.
الطبقة والهوية(مصطفى) يمثل الطبقة المهمشة التي تملك ثقافة لكن تُهمّشها المعايير المظهرية والجسدية والمجتمعية.
الكرامة كنقطة مفصلية للمقاومة: الكرامة لا تُقاس بالقوة المادية فقط، بل بصمت النفس، بالفكر، بالاحتفاظ بالهوية حتى أمام الانكسارات.
العمل كظروف حياتية ومعيار وجودي: ليس العمل مجرد مصدر رزق، بل ميدان للاختبار النفسي، المعياري، الأخلاقي.
الأسلوب السردي المُفصّل والتفصيلي: رواية اللحظة، التفاصيل الجسدية، حساسية الألم، التركيز على صوت الجسد (الجسور)، الأصابع، السجائر، الدخان، الزعر.
اللغة الواقعية المشبعة بالرمز: الجسد القصير، الجسد الضعيف، “أستاذ” مقابل “عامل”، المظهر مقابل المهارة — كلها رموز.
الضمير السردي: “أعرف، أرى، أشعر، تمنّيت” — الحاضر النفسي. غالبًا يستخدم الضمير المتكلم الذي يُقرّب القارئ من حالة الوجدان الداخلي.
صور الطبقية والمرآة الاجتماعية: المقارنة مع العمال الآخرين، مع من “يتدافعون”، مع من يقبل الأجرة القليلة من أجل لقمة العيش، مع من يمتلك جذورًا ربما مادية أو علاقات.
نظرية التمثيل الطبقي والاعتماد الثقافي: يُشبه ما طرحته أدب الواقعية الاجتماعية عند نجيب محفوظ، غسان كنفاني، أحلام مستغانمي، وقد تُشابه القصة في موضوعها مع قصص عن العمال والمهمّشين مثل أعمال كاتب مثل ناجي العلي في البوبّيات.
نظرية “التحقير الرمزي”: كما في أعمال بيير بورديو، كيف أن الطبقة المادية تؤثّر على الرمزية، على المقدرة على المطالبة، على أن تُرى الشخص ضمن قيمة اجتماعية.
نظرية الهوية النفسية / المثقفة في سياق الاستبداد أو التهميش: كما في كتابات الحلاج، أو كتابات أويي واتا (في أفريقيا) أو كتاب مثل تشينوا أتشيبي بخصوص المثقفين في وسط التفاوت الطبقي.
المرونة بين الرواية والقصة والشعر: (مصطفى الحاج حسين) يقارب الواقع بلغة أدبية تجمع الشعور والموقف، لا تكتفي بالوصف المُجرّد، بل تحوّل اللحظة الصعبة إلى تجربة وجدانية.
قدرت الكاتب على تحويل المقهور اليومي إلى تجربة إنسانية عامة: القارئ الذي لم يزر باب أنطاكية يعرف ما معنى أن يكون صوته غير مسموع، أن تكون الكرامة مرتعشة.
مكانة (مصطفى) بين كتاب الجيل: هو جزء من الكُتّاب الذين لا يكتفون بالسرد السياسي أو الوطني فحسب، بل يغوصون في التفاصيل النفسية والاجتماعية، مثلما يفعل أدباء المنفى والعمال في الأدب المعاصر.
القصة تُسلِّط الضوء على أن التحدّي المعاصر ليس فقط سياسيًا، بل يتجلّى في تفاصيل الحياة: المظهر، الجسم، الصوت، الطلب، الانتظار.
تُظهر أن المثقّف إذا لم يكن مدركًا لقيمته، إذا لم يكن يملك من العزم أن يُدافع عن كرامته، فسيُهمّش، حتى وإن كانت معرفته أفضل من غيره.
تدعو إلى فهم الكرامة ليس كتاج فقط، بل كحق يومي، كأن تُعامل باحترام بغض النظر عن الصوت أو القامة أو المظهر.
الصدق الفني: القصة لا تتزيّن، لا تهرب من الصعوبة. الألم الجسدي والوطني والحسي موجود، والتفاصيل، وأناقة السرد في وصف الحجر، في وصف الصوت، في تصوير الخجل.
الراحة بالواقعي: ليست مؤامرة سياسية مفتوحة، بل حياة يومية، تفاصيل بسيطة، وهذا يجعلها أقوى.
التجديد في الرؤية: بدلاً من قصص العمال البائسة التي تُعرض كضحايا بلا صوت، هنا البطَل يملك صوتًا، مثقَّفًا، طالبًا، عاجزًا ومقهورًا، لكن يحتفظ برؤيته، حتى لو حكم الواقع بقسوته.
قصة “باب أنطاكية” هي شهادة على أن الإنسان المهمَّش، الذي لا يُرى ضمن الفئات الكبيرة، يملك في داخله كرامة لا تُقاس بالعضلات أو الجسد، وأن الجوع ليس فقط للجسد بل للجمال، للقراءة، للهوية. الكاتب يُبدع في تحويل الهم اليوميّ إلى سؤال وجوديّ: ما قيمة الإنسان بين الناس؟ كيف يُعدّ المثقّف بين العمال؟ هل يمكن أن يعيش الكرامة وهو يحمل الحجر؟
هي قصة عن الصمت القسري، عن الكرامة المهشمة، ولكن أيضًا عن الأمل الذي يتوهّج في وجوه المارة، في مصافحة أبو محمود، في التعرّف والاعتراف. فهي ليست فقط قصّة كسبٍ للشغل، بل قصة استعادة كرامة بالهمس، بالكلمة، بالنية، حتى لو لم يُكمل النهارُ العمل بالكامل.*
د. خالد إسماعيل.
