تغريبة القافر …. اضحيات وقرابين •بقلم الأديب ستار زكم جمهورية العراق

تغريبة القافر …. اضحيات وقرابين •بقلم الأديب ستار زكم جمهورية العراق
تغيرت الفكرة السائدة عن الجائزة الدولية للبوكر العربية هذه المرة حال صدور رواية تغريبة القافر للكاتب العماني زهران القاسمي بعد ان اعلن فوزها في الدورة الأخيرة لعام 2023 ، حيث امتازت هذه الرواية بحبكة فنية عالية ورصانة متفردة في العديد من جوانبها الفنية بعد ان تمكن الكاتب من شد القارىء منذ الوهلة الأولى لمتابعة الأحداث التي وظفها بطريقة درامية غاية بالروعة حين قراءة صفحات السرد الممتع والحدث الضاج بالصدمة والتشويق الذي يستأنس به القارىء .
الرواية تحمل رمزية عالية وهي شح المياه الذي يسود العالم قدمها الكاتب بطريقة مشوقة جدا بعد ان تخللها الموت والعشق معا في عالم تسوده احداث غرائبية وسحرية .
من الإشتغالات الفنية التي وظفها الكاتب هي تلك الأبعاد السايكولوجية التي حددت للعديد من الشخصيات بعد ان اصبح المكان بؤرة اساسية ومهمة يحمل بين طياته بعدا نفسيا ( المكان النفسي ) اي ان هناك روابط جدلية تنبعث من الحدث الذي يقع داخل امكنة منتخبة شكلت روابط وثيقة ومحددة ، وبعبارة اخرى اصبح لدينا نتيجة تلك الأحداث السارية والمعقدة عوامل مشتركة ومتفاعلة بين المكان المعين وبين الشخصيات نتيجة الحدث القائم ، لذلك اكون ملزما هنا ان اصف هذه الرواية ب ( رواية مكان ) لأن المكان لم يكن مكانا عاديا في الفضاء السردي بل الهيكل الرئيسي الذي بنيت عليه الرواية بأكملها ، فالشخصيات تتأثر نفسيا بالأحداث التي تقع في المكان الذي يحمل صفة مغايرة ومختلفة ، حيث التأثير المباشر على الشخصية التي تدور في افعالها وتواجدها تجاه ذلك المكان المعين ، وهنا يمكن الإشارة الى مكان البئر الذي غرقت فيه مريم بنت حمد ود غانم ، ذلك المكان الذي بقيّ محفورا في ذاكرة ومخيلة الأبن سالم الذي سميّ لاحقا ب ( القافر ) علاوة الى الأمكنة التي جرت عليها الأحداث المسرودة لاحقا حيث شكلت الأبعاد النفسية الطاردة للشخصيات ، ما جعل القافر يجوب امكنة بعيدة عن قريته بحثا عن الماء / ذلك الماء الذي ملء جوف امه واوصلها الى قاع البئر وماتت غرقا ، اي ان هناك علاقة جدلية متبادلة بين الأمكنة والأبعاد النفسية التي تعاني منها بعض الشخصيات وكذلك الخوف الذي لايبارح المخيلة من تلك الأمكنة العنيدة التي بقيت تشكل علامات فارقة ومدهشة لتلك الشخصيات ، وهذا ما اعطى المكان بعدا نفسيا واضحا وبؤرة فاعلة تتصارع عليها الأحداث الدرامية برمتها .
بالإضافة الى ذلك تكمن قوة هذه الرواية في عدة محاور اهمها الإشتغالات الفنية المتعددة ومنها توظيف ثنائيات معينة في الحدث عبر اعتمادها في هذا الإشتغال على الراوي العليم .
من تلك الإشتغالات الفنية التي وظفها الكاتب هي توظيف الثنائيات المتقاربة والمتفاعلة في آن واحد ، مثل ثنائية الموت والحياة باعتبارهما صنوان لايفترقان في مخيلة الشخصيات وكذلك ثناية الحلم / بين حلم الأم ووليدها الخارج من بطن الموت ، حيث تعرض القافر الى الم معين باذنه وماتعرض له لاحقا عبر الألم المشابه لآلام امه التي ماتت غرقا بالبئر وهي تحاول ان تخفف من آلام الصداع برشقات الماء عبر البئر العميقة ، وكأنها قدمت نفسها اضحية للماء لينهمر المطر متعاظما وتعم الخضرة في المراعي في عموم ارجاء القرية ، لكن اليباس يعاود ثانية في القرى البعيدة وتبدأ بعدها رحلة البحث عن الماء ، فيظهر القافر الشخصية البطلة والمحورية في الرواية متصديا لأثر الماء بعدما اصبح بمثابة بوصلة تحدد امكنته عن طريق تحسس الصوت بأذنه ، وكأن الحلم هنا ينغمس في شخصية القافر ليشكل رابطا مهما مع حلم امه … غريقة البئر .
لذلك اخذ القافرعلى عاتقه عملية البحث عن سر الماء مفتشا بين الصخور والوديان في رحلة اسطورية خالدة حاملا مطرقة الألم ، متجاهلا سخرية القدر والبلادة التي يتقنها الكسالى واصحاب العقول المسطحة ، وبذلك ينظر القارىء الى هروب الأطفال منه وعدم اللعب معه كونه اصبح يتلبس بشخصية طفل مختلفة يتحسس سريان الماء في جوف الارض ويتأمل محسوسات الطبيعة بعد ان استهوته عيون الماء وقضاء جل وقته بين تجاويف الصخور البعيدة .
ثنائية الربيع وفورة الأشجار والماء واليباس والقحط الذي انتاب القرية او المدينة بعد ان انحسرت الحياة وبدأت تتلاشى شيئا فشيئا حتى صار الناس يخرجون لصلاة الإستسقاء ( لعل سحابة تنبت في الأفق ) وهذه ثنائية اخرى من الثنائيات التي اعتمدت ايضا في السرد الروائي .
في ثنائية اخرى ( ثنائية الألم ) يبدأ الصداع يراود القافر وهو شبيه بذلك الصداع الذي كانت امه ( غريقة البئر ) تعاني منه بعد ان تشبثت بولعها السياكولوجي بالماء ، وهذا توظيف فني آخر يحسب للكاتب زهران القاسمي في رسم صورة نفسية متشابهة بين الشخصيتين .
ثنائية جذر الأسم / ان التوئمة القائمة بين الشخصيتين ( سالم وسلام ) تعمّد في توظيفها الكاتب حيث الجذر المتقارب في التسمية ، وهذه مقاربة مهمة بين شخصيتين متشابهتين حتى في المعاناة السابقة لكلاهما رغم الفارق العمري الكبير بينهما ( والدة سالم ووالدة سلام مسكونتان بأمراض نفسية متقاربة الى حد ما ) سيما وان سلام ود عامور الوعري الذي انتشل جثة مريم ام سالم من البئر قد ماتت امه بعد ان انكرته بسبب جنونها حيث قتلت لاحقا باخمص بندقية الزوج ( والد سلام ) .
من جانب آخر يلاحظ القارئ موت عبد الله بن جميل ( والد سالم ) داخل الفلج لحظة البحث عن الماء بعد ان سقط عليه السقف فكان البعد السايكولوجي في عمق القافر كبيرا جدا بعد ان سرد لنا الراوي العليم ان الماء المحجور في باطن الأرض تحرسه كائنات الأرض السفلية ( ص 150 ) ضنا بما حدث كان انتقاما من تلك الكائنات ، ولا ننسى ايضا موت كاذية بنت غانم حزنا وكمدا على عبد الله بن جميل ، وهذه ثنائية لاحقة من ثنائيات الموت ايضا .
لذلك اصبح سالم بن عبد الله ( القافر ) بوصلة لتحديد مكان واثر الماء متحديا جميع الصعاب التي تواجهه ، فكلما انبعث السيل على يده استهوته عيون الماء التي تسكن تجاويف الصخور لتنشط الأفلاج والغدران بالماء وتكتسي الأرض بالخضرة الكثيفة حتى اصبح اسيرا لهذه المهمة التي قدم نفسه قربانا لها واصبح حبيسا وسجينا بين اسوار الماء بعد ان قصده محسن بن سيف من فلج الغبيرة في محاولة من الأخير اقناع القافر لاستخراج الماء ، فبدأ ياكل ويشرب داخل كهوفها مسورا باسيجة الماء قبل نهاية المطاف .
انتظار الماء / انتظار القافر…… بقيت روح القافر تكابد الموت داخل الصخور وهي ترنو الى زوجته نصرا بنت رمضان حيث بقيت الأخيرة وفية له وهي تغزل خيوط الصبر بانتظاره قبل انتظار الماء . بعد ان وضعت شرطا لزواجها من شخصية اخرى شريطة الإنتهاء من غزل الصوف كله وهي خديعة قامت بها نصرا بنت رمضان وفاء لزوجها الغائب ، لذلك بقيّ مغزل الصوف يدور ويدور معه الإنتظار / انتظار القافر المحبوس في اسوار الماء ، لتبقى رحلة الإنتظار هي النقطة الفاصلة والمهمة التي جعلها الكاتب زهران القاسمي خاتمة مفتوحة لروايته .
كل هذه الثنائيات اعلاه تجعل القارئ يتحسس قوة البناء الفني لهذه الرواية كون عملية التشابه او المقاربة بين هذه الثنائيات شكلت عاملا دراميا مهما في رسم عملية التتابع المشهدي للقراءة وعمّقت كثيرا من تفاعل الشخصيات عبر محسوسات بقيت تترادف في ذهن تلك الشخصيات المنتخبة ، وهذا هو سر نجاح هذه الرواية التي شكلت قوتها ورصانتها في هذا الجانب الفني المتفرد .