الثقافة والفن

ما بين الماضي والحاضر، ظلّ حب الأم من شُعَب الإيمان… لا بل من أعظمها. د مهدي علي دويغر الكعبي

ما بين الماضي والحاضر، ظلّ حب الأم من شُعَب الإيمان… لا بل من أعظمها. د مهدي علي دويغر الكعبي

 

العنوان: قلب لا يُخطئ

النوع: قصة قصيرة رؤيوية – واقعية / أدبية

الراوي: بصيغة المتكلم

الزمن: 1994

المكان: العراق – بغداد – مديرية الأمن العامة

بقلم صاحب التجربة الكاتب

أ م د مهدي علي دويغر الكعبي

 

الام قلب لا يُخطئ – أمي… كانت وما زالت صلبة كجبل، لا تهزّها رياح، ولا تكسرها محن .

الأم… كالعُمر، لا تُكرّر مرتين

 

الأمُّ…

كالعُمرِ

لا تُكرَّر مرتين

هي أولُ جُملةٍ نطقها القلب

قبل أن يتعلّم اللسانُ الحروف

 

هي الجَنّة

حين تضيقُ الأرضُ

وتغيبُ السّماءُ

هي الأمانُ المُقيمُ

وسطَ خريطةٍ تتغيّر كلّ يوم

 

قلب لا يُخطئ — أمي في زمن القهر

 

في عالمٍ تقيس فيه العيون الحقيقة بما تراه هناك قلوب ترى بما لا يُرى… وتعرف بما لا يُقال قلب الأمّ هذا الكيان الذي خُلق ليرى النور في الظلام ويهتدي حين تضلّ الطرق هو المعجزة المتكررة في حياة البشر.

أمّي كما وصفتها لم تكن امرأةً عادية. كانت مثل أم عمّار بن ياسر حين عذّبها المشركون لتتخلى عن إيمانها فاختارت الموت على أن تُنكر يقينها لم تكن من الفقيهات ولا من الواعظات لكنها عرفت أن البصيرة أعمق من البصر وأن الإيمان لا يُلقّن… بل يُغرس وينبت حين تموت كل الأشجار.

 

في تسعينات الجوع والحصار حين كان الخبزُ أمنية والدواءُ يُهرّب كالمخدرات والكرامةُ تُسرق على حواجز المخابرات، كان الناس يُؤخذون فلا يعودون… وتُمحى أسماؤهم من الوجود كأنهم لم يُولدوا. وفي وسط هذا الجحيم، كانت أمّي تحمل بيدها زادًا، وبالأخرى دعاءً، وتمشي كل جمعة إلى سجن لا تعرف من فيه… سوى أن قلبها أخبرها أنك هناك.

 

في التحديد عام 1994. كنت طالبًا في كلية التربية الرياضية، حين كان العراق يئنّ تحت حصار ظالم، وجوع مهين، وظروف خانقة لا تليق بالبشر.

وفي غفلة من هذا الزمن القاسي حاول أستاذان من خيرة أساتذتنا الهرب من البلاد. صديقي كان جزءًا من ترتيباتهم ومصادفة بائسة كشف أحد موظفي الجوازات الخطة،ووقع الأستاذ مع زوجته في قبضة المخابرات.

تحت التعذيب نُطق اسمي ثم جاء التهديد لأهلي فلم أجد بدًا من تسليم نفسي لم يعلم أحد أين تم احتجازي… سوى أمي.

سُلّمتُ إلى المخابرات وتم استقبالي كما يستقبلون من يتهمونه بالتخابر — ضرب، إهانة تعذيب واتهام بتنسيق محاولة هروب أساتذة إلى “العدو الإيراني” في وقتها .

وبين أروقة التحقيق لم يكن ثمة أحد يعلم مكاني ولم يكن بوسع أهلي أن يسألوا عني خوفًا من بطش النظام. حتى اختفى اسمي من الوجود كما اختفى الكثيرون

 

أترى؟ ما فعله قلبها يُشبه قول الإمام علي عليه السلام..

“ما جفاني قلبٌ عرفتُه أمًّا”.

فالأمّ تعرف حتى وإن أنكرها الوجود.

 

وقد روى الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رأى امرأة تُرضع طفلها تحت المطر فبكى وقال.

 

“كل من في الأرض مسؤول عن هذا الطفل أمام الله”.

فكيف بمن حملتك في بطنها ثم حملتك في دعائها ثم حملتك في صبرها على بوابة الأمن؟

أمّي لم تكن تنتظر إجابة بل كانت على يقين … ويقين الأمهات لا يشبه يقين أحد.

 

في زيارتي لأحد السجون بعد 2003 … أخبرني رجل طاعن بالسن قصةً مشابهة قال ..

“عشرين سنة وأنا أبحث عن ابني، وفي كل مرة يخبروني: ليس هنا. لكني أجيء لأن أمّه تقول لي كل ليلة هو هناك … وماتت وهي تردّدها.”

قلت له… “فماذا فعلت؟”

قال .. “ما زلت أجيء لأن الأمهات لا يُخطئن.”

 

أمّي في قصتي اختزلت حكايات الطهر كله. كانت مثل أمّ موسى التي ألقت ابنها في اليمّ ولم تخف لأن وعد الله لها كان ..

 

“إنّا رادّوه إليكِ وجاعلوه من المرسلين.”

لكن هذه الأمّ لم يكن معها وحي… بل وجع ولم تكن ترى النهر… بل ترى بابًا حديديًا وجدرانًا صامتة وقلبها يصرخ: “ابني هنا.”

 

وكم يشبه موقفها قول الإمام زين العابدين عليه السلام حين قال …

“الحُبّ من الله والرحمةُ من الله … وما اجتمعا في أحد كما اجتمعا في الأم.”

 

أمّي كانت تكسو وجهها ببسمة لم يَرَها أحدٌ من الداخل، وكانت تكسر مرايا الحزن كل يوم لتصنع منها نوافذ نور لك.

 

لكن قلبًا واحدًا لم يخنّه الإحساس.

كانت أمي كل يوم جمعة تحضر إلى مبنى مديرية الأمن العامة في البلديات — لا تملك دليلاً ولا تعرف شيئًا. كانت تسلّم الطعام والملابس والشراب لأشخاص لا تعرفهم، وهي تهمس في قلبها: “لابني، إن كان هنا”.

 

استمرّت على هذا الحال تسعة أشهر.

وحيث لاحظ مدير إدارة الامن هذا الإصرار الغريب فتح تحقيقًا. لتتبيّن المفاجأة .. أنا محتجز فعلًا في قسم خاص تحت شعبة 98 شعبة التهجم ..

فجاء التحقيق من جديد.. “كيف عرفتِ أن ابنك هنا؟”

وكان جواب أمي … “قلبي هو الذي دلّني. قلب الأم لا يُخطئ.

 

كم من مرةٍ شربت مرّ القهوة دون سكّر لتمنحك قطعة حلوى؟

وكم من مرةٍ شربت دمعتها كي لا تراك تبكي؟

قال أحد الصالحين ..

“ما رفعت أمٌّ يديها في الليل إلا وأعاد الله ما سُلب منها.”

وقد أعادك الله إليها … لأن يديها كانتا مرفوعتين من أول جمعة… حتى جمعة اللقاء.

 

ولم يعلم أحدٌ مكاني… سوى أمي.

كل جمعة .

كانت تأتي كل يوم جمعة إلى مبنى مديرية الأمن العامة في البلديات بلا دليل، ولا اتصال ولا جواب من أحد. كانت تسلّم حزمةً من الطعام والثياب وتقول للحرس

 

“هذا لولدي مهدي … إن كان هنا.

ثم تعود إلى البيت لتعاود المحاولة الأسبوع التالي. تسعة أشهر كاملة لم تملّ لم تسأل لم تضعف

 

قصتي ليست قصة سجن وفَرج.

بل قصة أمّ لم تقرأ في كتاب… لكنها كتبت في لوح القدر سطرًا لا يُمحى:

“قلب الأم لا يُخطئ.”

 

تأثر العميد معاد، وكان رجلًا نبيلًا. فأجريت لي زيارة خاصة للمرة الأولى شممتُ فيها رائحة أمي ورأيت وجهًا يشبه السماء بعد ظلام طويل دخل معها أحد أصدقائي لاعب مشهور من نادي الشرطة ولي معه خلافاً حاليا لذلك لا أدخل بالتفاصيل تعاطفًا لا تكليفًا.

 

لم أتكلم رجال الأمن فوق رأسي.

دخلت أمي لرؤيتي، للمرة الأولى منذ شهور الظلام. لم تتكلم.

لكنّ دمعتها تكلمت.

وحين سُئلت: “كيف عرفتِ أن ابنك هنا؟”

قالت:

“قلبي هو الذي دلّني.”

 

درع لا يُرى

لم تكن أمي من خطباء المنابر، ولا من المتعلمات. كانت تُدير حياتها بين المطبخ والحيّ الفقير، وتُصلّي كأنها ترسل برقيةً خاصة لله، لا تريد لأحد أن يسمعها.

ومع ذلك، صمدت كقلعةٍ ضدّ الجوع، والذل، والوحدة.

ربّت أبناءها على الصبر دون أن تشرح نظريات الصمود.

ربّتني على الشجاعة دون أن تحكي عن البطولة.

علّمتني أن أكون “بخير”، كما كانت تقول وهي تُخفي الدموع خلف بخار إبريق الشاي

 

لكن البكاء تكلم عني وعنها.

فامضِ بها… وكن لها ابنًا كما كان الإمام الحسن لأمه فاطمة لا يرفع بصره أمامها ولا يمشي في طريقٍ قبلها.

وكن لها جُندب بن عبد الله البجلي الذي عاد من الغزو ليخدم أمّه فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ..

 

أمّك… أمّك.. أمّك .ثم أبوك.

وتذكّر دائمًا…

إن ضلّ الناس … وإن عجز الدليل .. وإن سقطت الشهادات .

فثمة بوصلة لا تنكسر…

اسمها … قلب أم.

 

قال الإمام علي عليه السلام:

“ما جفاني قلبٌ عرفتُه أمًا.”

وقال النبي محمد ﷺ:

“الجنة تحت أقدام الأمهات.”

 

لكن في الواقع العراقي الأمّ لا تمنح الجنة فقط…

بل تمنح الحياة. تنقذ وتحمي وتُرشد وتعرف ما لا يعرفه أقرب المقرّبين.

قلبها لا يقرأ الأخبار… لكنه يقرأك.

لا يحمل شهادة… لكنه يحملك.

لا يتعلم في جامعة… لكنه يدرّسك أعظم دروس الصبر والنجاة.

 

ما بعد القصة

كلما أردت الاستسلام تذكّرت تسعة أشهر من خطى أمّي على الإسفلت الحار وهي تُقاوم الصمت والإذلال باسم “حب لا يُخطئ”.

وكلما ضللت الطريق شعرت بذلك القلب يرشدني — كما أرشدها إليّ.

وبعد أيام حين انتهت التحقيقات وثبتت الحقيقة أُطلق سراحي.

الأستاذ سُجن ثلاث سنوات، وزوجته أُفرج عنها.

 

خرجتُ من السجن، وعدت إلى البيت… لكن الحقيقة؟

أنا لم أخرج من حضن أمي قط.

أما أنا فخرجت بحضن أمي… ولم أخرج منه إلى اليوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار