(مهرجان)أحاسيس: مصطفى الحاج حسين. بفلم: (زهرة زميطة)

(مهرجان)أحاسيس: مصطفى الحاج حسين. بفلم: (زهرة زميطة)
الصَّالةُ تَضُجُّ بالحُضورِ
امتلأتْ جَميعُ المَقاعِدِ
إلّا مَقعَدًا بِجِواري
وعندما رَأَتْني
فَضَّلَتْ أَنْ تَبْقَى
واقِفَةً!!*
مصطفى الحاج حسين.
حلب، 1987م
*دراسة نقديّة أدبيّة معاصرة: قصيدة “مهرجان”*
بفلم: ((زهرة زميطة))..
تمهيد: القصيدة كلمحة عاطفية مكثفة.
القصيدة تندرج ضمن ما يُعرف بـ”القصيدة الومضة” أو “الشذرة الشعرية”، وهي شكل تعبيري حديث في الشعر العربي المعاصر، يكتفي بالحدّ الأدنى من الكلمات لفتح أقصى مساحة من التأويل والدهشة. في نصّ “مهرجان”، يُقدّم مصطفى الحاج حسين لوحةً شعريةً قصيرةً، لكنّها غنية بالإيحاءات النفسية والوجدانية والاجتماعية، تعكس لحظة انكسار شخصي وسط زحام احتفالي جماعي.
تبدأ القصيدة بجملة افتتاحية حسّيّة:
“الصالةُ تضجُّ بالحضور”
الجملة تُؤسّس فضاءً مكتملًا، صاخبًا، حيًّا. الحضور هنا جماعي، شامل، والحدث (مهرجان؟ احتفال؟ أمسية؟) يبدو متكاملاً على المستوى الخارجي.
لكن الشاعر، في وسط هذا الاكتمال الظاهري، يعيد ترتيب المشهد من زاوية شخصية:
“امتلأت جميع المقاعد،
إلا مقعدًا بجواري.”
هنا يتقاطع النص مع مفاهيم علم النفس الاجتماعي حول “الوحدة وسط الجماعة” أو ما يُسمى بـالانعزال الجمعي،
وهي حالة يعيشها الإنسان الحديث بكثرة.
من الناحية البلاغية، القصيدة تمارس نوعًا من الاقتصاد التعبيري المذهل:
لا استعارات مفرطة، لا زخرف لغوي، لا صراخ، بل كلمات محددة، مختارة بدقة، تؤدي المعنى بتركيز عالٍ.
هذا النوع من الشعر هو الأقرب لروح القصيدة الحديثة/ما بعد الحداثية، حيث يُصبح ما لم يُقَل أبلغ ممّا قيل. الفراغ هنا يحمل من الشعر ما لا تحمله الكلمات.
اختيار الشاعر لعنوان “مهرجان” لم يكن عفويًا، بل مفارقة قصديّة.
فالمهرجان، حيث الحشد، والفرح، والانشغال، لا يساوي شيئًا أمام لحظة “وقوف” شخصٍ بعينه، ورفضه الجلوس قربك.
القصيدة بكاملها تلخّص انهيار المعنى الشخصي في قلب المبالغة الاجتماعية، وتُظهر كيف يمكن للقصائد الصغيرة، أن تكون أكثر تعبيرًا عن الألم من الملاحم الطوال.
هنا يبدأ الانكسار: الفراغ ليس في القاعة، بل في الذات. كلّ شيء يبدو ممتلئًا إلّا النقطة التي تعنيه تحديدًا. المقعد الفارغ بجواره يُصبح مركز الثقل الشعري، رمزًا للانتظار، للخذلان، وربما للمفارقة العاطفية.
التحوّل الدرامي، اللقاء غير المُكتمل.
“وعندما رأتني،
فضّلت أن تبقى واقفة!!”
الحدث الشعري يكتمل هنا: المقعد لم يكن فارغًا صدفة. كان موجّهًا لها. ولكن المفاجأة أنّ الحضور حدث، لكن التفاعل لم يتم. رؤيتها له لم تدفعها إلى الجلوس، بل إلى الإحجام.
إنه موقف رفض ناعم، انفصال غير مصرح به، لكنه أقسى من الجفاء الصريح. المشهد الذي بناه الشاعر لا يصف فقط علاقة عاطفية مأزومة، بل يطرح تساؤلات وجودية عن الغياب في قلب الحضور، وعن مدى هشاشة التواصل الإنساني حتى في لحظاته المتوقّعة.
الشاعر لا يصرخ، لا يبكي، لا يحتجّ. بل يكتفي بتقرير الواقعة، ببرود الظاهر واحتراق الداخل.
تجربة الوقوف بينما المقعد فارغ، واختيار الآخر ألا يملأه، يُشكّل لحظة خيبة متأنقة، فيها نوع من الحزن الفخم، المرتبك، المحترق بهدوء.
يستحضر هذا المشهد لدى القارئ مشاعر “الخسارة غير المُعترف بها”، و”الودّ الذي لم يُستهلك”، وهي مشاعر يعاني منها الإنسان العصري في علاقاته المتوترة بالآخر.
المقعد الفارغ وسط الحضور يتحوّل في القراءة الجمالية إلى رمز أوسع: عن الوحدة داخل المجتمع.*
زهرة زميطة.